المحور الأول
الوسطية والاعتدال في القرآن والسنة مظاهر الوسطية في الإسلام
للدكتور سليمان بن إبراهيم العايد
مظاهر الوسطية في الإسلام
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسوله الأمين ، وبعد :
الحديث عن مظاهر الوسطية في الإسلام حديث ذو شجون ، لأنها كثيرة متغلغلة في جميع عقائده ، وفرائضه ، وشرائعه ، ولو أردنا الحديث عنها حديثا شاملا لكتبنا كل ما كتب عن الإسلام من عقائد ، وأحكام ، عبادات ومعاملات ، علاقات وسياسات . . إلخ ، ولكنا في مقام لا يتسع إلا لقليل مما في شرائع الإسلام الواسعة ، وأحكامه الشاملة ، التي تشمل حياة الإنسان كلها .
إن الإسلام هو الدين الحق ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ )(سورة آل عمران الآية 19)( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )(سورة آل عمران الآية 85)
وهو الدين الخاتم الذي تكفل الله بحفظه ، وإظهاره . ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ )(سورة الصف الآية 9)
وقد اصطفى الله لخير الأديان وأكملها خير الأمم وأكملها على تفاوت في خيرية أفرادها ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ)(سورة فاطر الآية 32) بعد قوله ( وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ)(سورة فاطر الآية 31)
[ص-41] فالأمة ثلاث فئات ، أو ثلاثة أصناف ، رتبت في الآية على حسب كثرتها وقلتها ، فالطائفة الأولى ( الظالمون لأنفسهم ) هم الأكثر ، ثم يأتي الأقل ، وهم - ما بين مقتصد إلى سابق - أفراد من هذه الأمة المصطفاة .
وقد أكمل الله لهذه الأمة دينها على يد محمد صلى الله عليه وسلم ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)(سورة المائدة الآية 3) بعد أن أيأس الله ( عز وجل ) الكفار من أن يبطلوا هذا الدين أو يغلبوه( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ)( سورة المائدة الآية 3) وانظر تفسير القاسمي ( 6 / 1829 - 1830 ) . وجعل أمة هذا الدين خير أمة أخرجت للناس (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ )(سورة آل عمران الآية 110 )
وهذا كامن في سر دينها أكمل الأديان وأوفاها ، وهو دين رباني بعقائده ، وأصول شرائعه ، ترك للبشر الاجتهاد في تنفيذه ، وتطلب أفضل الطرق لتحقيقه واقعا في الأرض ، بحسب طاقتهم وما أمكنهم الله فيه من العلم ، وجعل هذا واجبا لازما في عنق هذه الأمة إلى قيام الساعة (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ )(سورة يوسف الآية 108 )
وما جعله الله بهذه المنزلة ، وهذه المثابة إلا لما يحمله من مزايا ذاتية ، أهمها الوسطية ، والحديث عنها - كما أسلفنا - متشعب ، ذو فروع ، لا يمكن الإتيان عليها كلها في مقالة أو كلمة ، ولكن لنا أن نبرز أهم مظاهر الوسطية في الجوانب التالية : الفردية ، والاجتماعية ، والتشريعية :
( 1 ) الجانب الفردي
إذ حمل الإسلام الإنسان مسئولية عمله ، ولم يحمله مسئولية عمل غيره ، مهما بلغت القرابة ، ما [ص-42] لم يكن طرفا أو سببا .
( أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)(سورة النجم الآية 36-39) ( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا* مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)(سورة الإسراء الآية 13-15)
وهذه القيمة لها أثرها في حياة الإنسان وسلوكه ، وتحمله المسئولية ، وتحقيق العدالة والمساواة بين الخلق ، وهي أصل ومبدأ من مبادئ الإسلام الراسخة ، تقصر دونه كل المبادئ والقيم الأخرى ، وقد رتب على هذا أن الجزاء مرتب على العمل ، فلا أحد يظلم بحمل وزر غيره ( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى)(سورة فاطر الآية 18) إلا إذا سلكت سبيل المضلين ( وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ )(سورة العنكبوت الآية 13) فإنهم يحملون أثقال إضلال الناس مع أثقال ضلالهم ، وذلك كله من أوزارهم ، القاسمي ( 14 / 4979 ) .
ولا أحد يعطى ثمرة عمل غيره ليحرم منها العامل ، ولا يستحق أحد المكافأة إلا بعمل صالح ، لا ينفعه في ذلك نسب أو حسب أو جاه ، وهذه مبادئ لو طبقت في واقعنا العملي الحيوي لكان للمسلمين شأن آخر ، وإنما أتي المسلمون من الغفلة عنها .
ومما يتعلق بالمسئوليات التوزيع العادل للمسئولية الاجتماعية قال صلى الله عليه وسلم : ( أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ ، أَلَا فَكُلُّكُمْ [ص-43] رَاعٍ ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) . أخرجه البخاري ومسلم ، واللفظ لمسلم ( كتاب الإمارة ح 20 ) .
وقد دأب كثير من الناس على رمي غيرهم بالتقصير ونسيان أنفسهم تزكية لها ، وكأنهم غير مسئولين ، إن كل فرد في هذا المجتمع يحمل جزءا من المسئولية العامة فيه ، مهما صغر هذا الجزء ، إذ كل مسلم على ثغرة من ثُغُر الإسلام ، فلا يؤتين الإسلام من قبله .
ولو أصلح كل واحد نفسه ، وقام بالواجب عليه نحو غيره من نصح وأمر بمعروف ، ونهي عن منكر ، وسائر ما أمر به الشارع ، وحده من الحقوق ، لم يكن ثمة خلل ، لكن أكثر القوم يتخلون عن مسئوليتهم ، ويستبدلون بها كلاما في النقد ، يوزع على حملة المسئولية ، من ولاة وعلماء وأصحاب شأن ، وكأنهم المعنيون ب (مَنْ قَالَ هَلَكَ الْمُسْلِمُونَ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ) . إن الذين لا يعملون ولا يشعرون بوطأة العمل ، وثقل المسئولية هم أجرأ الناس على النقد غير البصير ، وهم أجرأ الخلق على إدانة غيرهم ، وتبيان ما يظنون قصورا وعيبا فيهم ، لأن المشغول بالعمل الجاد معني بإتقان عمله ، وإصلاح نفسه ، ودرء عيوبها ، لا يشمت بمقصر ، ولا يفتات على محسن ، ولا يبهت بريئا ؛ لأن له من دينه وشغله صارفا عن الاشتغال بغيره وذمه ، ينظر إلى المحسنين فيدعو لهم بالتوفيق وأن يكون مثلهم ، وينظر إلى المقصرين ، فيدعو لهم بإقالة عثراتهم ، وأن يعافيهم مما ابتلاهم به ، في حين ينظر البطَّالون إلى المقصرين فيشمتون بهم ، ويشيعون عنهم قالة السوء .
وقد أتم الإسلام هذه القيمة بأحكام تتعلق بالغيبة والبهتان ، والحسد والضغينة والتحقير ، فعالج هذه علاجا خلقيا ، ليس هذا مقام بسطه .
قد يستغرب البعض إقحام المسئولية في مظاهر الوسطية ، وليته يذكر ما تنادي به بعض الطوائف من تقسيم الخلق إلى أصحاب الحقيقة وأصحاب الشريعة ، ومن إسقاط الواجبات الشرعية عن بعض ، ومن تحمل بعض آخر المسئولية عن آخرين ، ومن زعم البعض العصمة لمتبوعيهم .
ومن مظاهر الوسطية في مصادر العلم الشرعي غلو فئة حتى لا تقر بغير القرآن مصدرا ، ويجرها ذلك إلى إنكار السنة ، وعدم الانقياد لها ، أو جهلها وإهمالها ، وكان هذا مبدأ نشأة الخوارج الذين غلوا في القرآن حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تَسْمَعُ لِصَوْتِهِمْ دَوِيًّا كَدَوِيِّ النَّحْلِ ) .
غير أنهم أهملوا سنته صلى الله عليه وسلم ، فكان أن عملوا بمتشابه القرآن ، وعموماته ومطلقاته التي تحتاج إلى سنته ترفع تشابهها ، [ص-44] أو تخصيص يخصص عمومها ، أو قيد يقيد مطلقها ، وهذه الطائفة تتكرر في كل زمان ، ولعلها الفئة التي أشار إليها عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) بقوله : (( إِنَّهُ سَيَأْتِي أُنَاسٌ يَأْخُذُونَكُمْ بِشُبُهَاتِ الْقُرْآنِ ، فَخُذُوهُمْ بِالسُّنَنِ ؛ فَإِنَّ أَصْحَابَ السُّنَنِ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ )) ( شرح السنة للبغوي 1 / 192 تحقيق صقر ) . والمتأمل في كثير من مسائل الضلالة ، يجدها تعود إلى هذا الباب .
وهذا العمل يؤدي إلى غلو الإنسان بنفسه ، وأن يضعها في مكانة فوق ما تستحقه ، حتى إنه ليظن أنه أحاط بالشريعة علما ، وليس لديه إلا أقل القليل من نصوص لعله لم يحسن فهمها ، ولم يع فقهها ، ثم يحاكم الأمة إلى علمه هذا ، ويرفض كل فقه أو علم لدى من سبقوه في أبواب العلم والفقه لرجال أفنوا أعمارهم ، وأخلصوا تجاربهم له ، ظنا منه أن هؤلاء قد حيل بينهم وبين الفهم السليم والفقه الراشد .
( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا)(سورة النساء الآية 83) (( وفي هذا إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها ، فيخبر بها ويفشيها وينشرها ، وقد لا يكون لها صحة )) [ ابن كثير 2 / 321 ] .
وهذا نظير ما يفعله كثير من المبادرة والتسابق إلى نشر أشياء وأخبار وأقوال وإشاعات لم يتأكد من صحتها ، ولعلها نقلت على غير وجهها ، أو فصلت عن سياقها ، أولم تقع ، ومع ذلك يظنون معهم العلم كله ، وما معهم إلا ظنون وإشاعات وشيء من الأخبار ، الله أعلم بصحتها .
وكان اللائق بهم أن يضعوا أنفسهم موضع السائل سؤال التبين والتعلم فيما يحتاج إليه من أمر الدين ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)(سورة النحل الآية 43) ( فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ)(سورة يونس الآية 94) وبالسؤال تتبين الحقيقة وتتأكد .
وكل هذا إنما يقع لمخالفة القصد والتوسط في تحصيل العلم ونشره وأيا كان هذا العلم .
لا أريد أن أدخل في صفات طالب العلم ، ولا في صفات العلم النافع ، ولا واجبات أهل العلم ، لأن هذا معروف مقرر [ص-45] ويخرج بنا عن أصل الكلام . وإنما أريد أن أؤكد ما يقوله أهل العلم من أن من (( أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقيق به أخذه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام )) ( الموافقات 1 / 56 ) وما قيل من (( أن العلم كان في صدور الرجال ، ثم انتقل إلى الكتاب ، وصارت مفاتحه بأيدي الرجال )) ( الموافقات ص 57 ) وهذا يفهم منه أن العالم لا بد (( أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم لأخذه عنهم ، وملازمته لهم )) ( الموافقات 1 / 58 ) .
فالعلم لا يتكون من القراءة وحدها ، وإنما يتكون من الخلطة بأهل العلم ومجالستهم ، وهو ما يفقد لدى كثير من المنتسبين للعلم .
وكل انحراف أو زيغ في طريقة تحصيل العلم أو التأدب بآدابه ، أو أداء حقه وواجبه ، إنما مرده إلى شيء من الغلو في طريقة من طرق العلم ، تفقد نوره وبهاءه ، وتذهب ببركته .
المصدر: حملة السكينة