د. عبد العزيز بن عبد الله الخضيري
الحياة وقفات من التعلم والعمل والتدريب والتأهيل والدروس التي يمكن الاستفادة منها لدفع الحياة نحو الأفضل، ويكون الأفضل عندما تعف النفس عما في أيدي الناس وأعراضها ويكون العطاء والإنجاز والتطوير هو المحرك مهما كانت الظروف أو الأسباب التي تحاول أن تقف في سبيل ذلك العطاء.
لقد تعلمت من الحياة أن الحق يعلو مهما كان صوت الباطل أعلى وأن صاحب الحق لا يعلو صوته أبدا ليحقق حقه وإنما يكون صوته هادئا ودعواه صادقة والله - سبحانه وتعالى - دائما أمامه، فلا يكذب من أجل الحصول على أمر ولا يغش من أجله ولا يستغل كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة من أجل الحصول على ما يدعي أنه حق.
خلال سنوات من العمل والتعامل مع الناس تعلمت كيف أقرأهم وأتعامل معهم ولا أتأثر بالمرجفين أو الصارخين أو المحاولين استغلال المواقف أو الظروف لأخذ حقوق الآخرين، كما تعلمت من وقفات ومواقف كثيرة في الحياة ألا ألتفت إلى المدعين بالبكاء من أجل أخذ حقوق الآخرين، وأتذكر دائما ما يروى عن الإمام الشعبي أنه ذهب يوما إلى القاضي شريح يزوره، بينما هو جالس عنده حضرت امرأة لتشكو إلى القاضي شريح ظلما وقع عليها، وكانت المرأة تبكي بكاءً شديداً والدموع تنهمر من عينيها، فقال الشعبي: ما أظن هذه المرأة إلا مظلومة، فقال يا شعبي إن إخوة يوسف جاءوا أباهم عشاء يبكون، يقصد أن البكاء والدموع لا يصلحان دليلا يحكم به القاضي، وذكره بما حدث مع إخوة يوسف وكيف فعلوا بأخيهم ثم جاءوا إلى أبيهم يبكون، فقد أدرك شريح أن الشعبي قد انخدع ببكاء المرأة، فأرشده إلى أن القاضي يجب أن يتحرى الرأي الصحيح قبل إصدار الحكم.
إن المتأمل لهذا الموقف والمواقف العديدة المشابهة التي يتعلمها الإنسان الحكيم ضمن رحلة الحياة المليئة بالمواقف والوقفات التي تفرض عليه حسن الظن وعمق المعرفة وعدم التأثر بما يمكن أن يقال له أو يحدث أمامه حتى يكون قادرا على اتخاذ الحكم الصحيح الخالي من الردود العاطفية المتأثرة بما يمكن أن يضيع الحق من أهله وأصحابه.
العمل في الشأن العام والتعامل مع حقوق الناس ومصالحهم يتطلب الكثير من الهدوء والحكمة والتعامل المتزن مع كل ما يرد للمعني بمثل هذا الشأن، كما يتطلب الأمر اللطف دون الضعف أو الارتخاء لضمان تحقيق العدالة والإنصاف، وألا يكون صاحب الصوت الرفيع هو صاحب الحق بمطلقه أو أن يكون صاحب الصوت الرفيع هو من يربك المعني بإحقاق الحق، وعندما أوضح القاضي شريح لضيفه الشعبي أن المرأة الباكية ليست بالضرورة صاحبة الحق، وكما جاء في الأثر ''إذا جاءك الخصم مفقوعة عينه فلا تحكم له فقد يأتيك الخصم الثاني مفقوعة عيناه''.
إن الإنسان عندما يبتلى بالعمل في الشأن العام فإن إخلاص النية والعمل لله ـــ سبحانه وتعالى ـــ يجب أن يكون عونه ودليله لأداء العمل، وألا يجعل الضعف أو الخوف من أصحاب المصالح الخاصة والأهواء هو دليله لأداء العمل، لأن مثل هذا العمل يتطلب كما ذكرت اللطف دون الضعف أو الخوف ممن يحاول أن يقلب الباطل إلى حق مهما كان مكانه أو ماله أو جاهه أو سلطانه أو وسيلته.
إن وضوح الرؤية وسلوك السلوك المستقيم والعمل بكل إخلاص هي السبيل الأقوى لتحقيق العطاء والإنجاز والتطوير واستدامته، وما أخافني من الوصول إلى قمة العطاء والإنجاز إلا عدم الاستمرار في الحفاظ عليه وحمايته حتى يحقق الخير ما بقيت السموات والأرض، ولهذا فإن صوت الحق وقوته يبقى هو الأساس لكل عمل وعطاء، ومجرد الخوف أو القلق من صوت الباطل أو الاعتقاد أنه الصوت الأقوى هو خوف وقلق في غير محله، ولهذا فإن نصيحتي ونصيحة من سبقونا جميعا أن صوت الحق يعلو ولا يعلى عليه مهما كانت أدوات ووسائل صوت الباطل ومهما حقق من أتباع أو مطبلين إلا أن الحق يبقى دائما هو الأعلى، ولعل لنا في بقية قصة يوسف عليه السلام مع إخوته ما يؤكد ذلك، فبعد بكائهم وادعائهم على يوسف أعزه الله عليهم ومكنه في الأرض وجعلهم جميعا يسجدون له، وصدق المصطفى ــ عليه الصلاة والسلام ــ بقوله ''واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك''. وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.. وللحديث بقية.
وقفة تأمل:
لا نطلب الدنيا ولا نسعى لها
الله مقصدنا ونعم المقصد
ليس المناصب همنا ومرادنا
كلا ولا ثوب الخديعة نرتدي
إنا لنسعى في صلاح نفوسنا
ندعو القريب قبيل نفع الأبعدي
وبواجب المعروف نأمر قومنا
ونقوم صفا في طريق المفسد