د. محمد عمارة .
عدالة الاستخلاف . إن مفتاح الفلسفة الإسلامية فى الاجتماع والاقتصاد يبدأ بنظرية الاستخلاف .. فالله, سبحانه وتعالى, هو الحق البارئ والراعى والمدبر للخلق.. ولقد شاء الله أن يستخلف الإنسان.. مطلق الإنسان, وليس فقط " الفرد " أو " الطبقة " ـ فى عمران الأرض, وفى حيازة واستثمار الثروات والأموال والانتفاع بها, وذلك وفق بنود عقد وعهد الاستخلاف ـ التى حددت الشريعة أصولها ومبادئها وقواعدها.. وتركت تفصيلاتها لفقه المعاملات ـ .
فعندما أراد الله, سبحانه وتعالى, خلق آدم عليه السلام, أنبأ ملائكته أنه سيتخذه فى الأرض خليفة, يحمل أمانة العلم والاختيار والتكليف, نهوضا برسالة عمرانها وزينتها, فقال : { وإذ قال ربك للملائكة إنى جاعل فى الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إنى أعلم مالا تعلمون } .
ولقد تميزت مكانة الإنسان فى الكون, وعلاقته بالثروات والأموال ـ امتلاكا .. واستثمارا .. وإنفاقاً ـ بفلسفة الإسلام فى الاستخلاف .. فمكانة هذا الإنسان هى مكانة الخليفة, المفوض فى عمارة الأرض, الحر المختار المكلف المسئول ـ لأن هذه هى الشروط الضرورية التى تلزم لنهوضه برسالة استعمار الأرض ـ .. وأيضاً, فإن مكانة الخليفة تضع إطاراً ضابطا على هذا التفويض والاختيار والحرية, متمثلاً فى بنود عقد وعهد الاستخلاف, أى الشريعة الإلهية, التى تمثل معالم وضوابط وآفاق هذا الاستخلاف.
فهذا الإنسان المستخلف, ليس هو المجبر المهمش الذى ليس له من الأمر شئ.. وهو ـ كذلك ـ ليس سيد الكون, المكتفى بذاته, والمستغنى باختياره عن رعاية وتدبير الله الخالق والمستخلف لهذا الإنسان.. إنه سيد فى هذا الكون, وليس سيد الكون.. وبعبارة الإمام محمد عبده ] 1265 ـ 1323 هـ 1849 ـ 1905م [ : " هو عبد لله وحده, وسيد لكل شئ بعده".
وتفريعا على هذا المعنى الكلى للاستخلاف, تميزت وتتميز الرؤية الإسلامية لنطاق حرية وعلاقة الإنسان ـ الخليفة ـ بالثروات والأموال, ومن ثم النظام الاجتماعى فى الإسلام.. فالإنسان ـ فى هذه الرؤية ـ خليفة ومستخلف، تحكم حرياته وعلاقاته بالثروات والأموال بنود عقد وعهد الاستخلاف فى العدل والتكافل والمساواة, التى تحقق التوازن بين الفرد والطبقة والأمة فى التملك والاستثمار والإنفاق.
إن المالك الحقيقى ـ مالك الرقبة ـ فى الأموال والثروات هو خالقها ومفيضها فى الطبيعة, الله سبحانه وتعالى.. وهو الذى سخرها, كغيرها من قوى الطبيعة وكنوزها, ليرتفق بها الإنسان ـ ارتفاق تسخير ـ بمعنى الأخوة ـ لا ارتفاق سخرة ـ بمعنى القهر ـ استعانة بها على أداء مهام الاستخلاف ـ عمارة هذه الأرض وتزيينها.
وللإنسان في هذه الثروات والأموال ملكية المنفعة, المجازية, ملكية الوظيفة الاجتماعية, التى تتيح له حرية الاختصاص, والاستثمار والتنمية, والانتفاع, المحكومة ببنود وعهد الاستخلاف, من المالك الحقيقى, لهذا الإنسان فى هذه الثروات والأموال.
وهذا المعنى للاستخلاف, فى الأموال والثروات ـ كما هو شأن الوسطية الإسلامية ـ لايجرد الإنسان من حق الملكية للثروات والأموال .. وأيضاً لايرفع الضوابط عن حريته فى التملك والتصرف .. وإنما يقف بهذه الحرية عند " حرية الخليفة " المحكومة بإرادة وأوامر ونواهى المالك الحقيقى للأموال والثروات.
ولمعنى الاستخلاف هذا جاء التعبير بمصطلح " الحق " عن ماللآخرين فى مال الإنسان { والذين فى أموالهم حق معلوم . للسائل والمحروم }, وجاءت إضافة مصطلح " المال " فى القرآن الكريم, إلى ضمير " الجمع " فى سبع وأربعين آية ـ فالجمع هو الإنسان المستخلف ـ بينما جاءت إضافته إلى ضمير " المفرد " فى سبع آيات, كى لايستأثرالفرد ويستغنى .. أيضاً, كى لا يحرم من حق الاختصاص والحيازة والملكية, المحكومة بفلسفة وضوابط الاستخلاف.
فللإنسان مال .. لكنه فى نفس الوقت مال الأمة .. وبعبارة الإمام محمد عبده :" إن تكافل الأمة يعنى " أن مال كل واحد منكم هو مال أمتكم!" .. وبعبارة الزمخشرى { 467 ـ 538 هـ 1075 ـ 1144م } ـ ] الكشاف [ ـ وهو يفسر قول الله سبحانه وتعالى : { وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه } : " إن مراد الله من هذه الآية هو أن يقول للناس : إن الأموال التى فى أيديكم إنما هى أموال الله, بخلقه وإنشائه لها, وإنما مولكم إياها, وخولكم الاستمتاع بها, وجعلكم خلفاء فى التصرف فيها, فليست هى أموالكم فى الحقيقة, وما أنتم فيها إلا بمنزلة الوكلاء والنواب.."
هذا هو معنى الاستخلاف فى ميدان الثروات والأموال.