د. محمد عمارة .
عدالة الوسطية المتوازنة
العدل ـ في المصطلح الإسلامى ـ هو الضد والمقابل للجور والظلم .. لا بالمعنى السلبي فقط, أي نفى الجور والظلم وغيبتهما.. وإنما بالمعنى الإيجابي, المتمثل في سيادة " الوسطية الإسلامية الجامعة " التي لا تنحاز إلى قطب واحد من قطبي الظاهرة, وكذلك لا تنعزل عنهما معا ولا تغايرهما كل المغايرة, وإنما تجمع عناصر العدل والحق فيهما, مكونة الموقف العادل بين ظلمين, والحق بين باطلين, والمعتدل بين تطرفين.. فالعدل : هو التوسط .. والوسطية الجامعة لعناصر الحق من أقطاب الظواهر موضوع الدرس ومحل النزاع والاستقطاب.
وهذا المعنى للعدل ـ في المصطلح الإسلامي ـ هو الذي يشير إليه حديث رسول الله, صلى الله عليه وسلم, الذي يقول : " الوسط : العدل .. جعلناكم أمة وسطا "والعدل ـ في شرعة الإسلام ـ فريضة واجبة, وضرورة من الضرورات الاجتماعية والإنسانية, وليس مجرد " حق " من الحقوق, التي لصاحبها أن يتنازل عنها إن هو أراد ذلك, أو أن يفرط فيها, بالإهمال, دون وزر وتأثيم .. إنه فريضة واجبة, فرضها الله سبحانه وتعالى, على الكافة دون استثناء, بل لقد فرضها على ذاته, سبحانه, بالمعنى اللائق بذاته, حتى لقد جعلها اسما من أسمائه الحسنى.. وفرضها على رسوله, صلى الله عليه وسلم, وأمره بها : { فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم }.الشورى15.وفرضها على أولياء الأمور, من الولاة والحكام والرعاة, تجاه الرعية والمتحاكمين : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً } النساء 58.
بل لقد أنبأنا الله, سبحانه وتعالى, أن هذه " الأمانة " التي فرض على الإنسان حملها وأداءها, كانت هي المعيار الذي تميز به الإنسان وامتاز عن غيره من المخلوقات غير المختارة : { إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً } الأحزاب72. .. ومن المفسرين من قالوا : إنها أمانات الأموال, والعدل بين الناس فيها.. وفرضها معيارا للعلاقة بين الرعية وبين أولى الأمر ـ الدولة والسلطان ـ يشير إليه حديث رسول الله, صلى الله عليه وسلم, الذي يحدث الولاة عن تكافؤ " العقد " بينهم وبين رعيتهم, محذرا إياهم من التفريط بما عليهم تجاه الرعية, في سياق حديثه إلى الرعية عن علاقتهم بالولاة والأئمة : " إن لهم ـ ] الأئمة [ ـ عليكم حقا, ولكم عليهم حقا مثل ذلك, ما إن استرحموا رحموا, وإن عاهدوا وفوا, وإن حكموا عدلوا, فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.." .
والعدل فريضة في مجتمع الأسرة ـ الذي هو لبنة بناء مجتمع الأمة ـ يشير إليها حديث رسول الله, صلى الله عليه وسلم, الذي يقول فيه :" اعدلوا بين أبنائكم".. وتعنيه الآية القرآنية التي تقرر ما للمرأة وما عليها: { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف }البقرة228 .. وتلك التي تعلق التعدد في الزوجات على تحقيق العدل بينهن : { فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة } النساء 3 .
إنها ـ العدالة ـ فريضة شاملة لكل ميادين الحياة : عدل الولاة في الرعية .. وعدل القضاة في المتحاكمين.. وعدل الإنسان في أهل بيته.. ولهذا الشمول كانت إشارة حديث رسول الله, صلى الله عليه وسلم, الذي يقول فيه " المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن, عز وجل, وكلتا يديه يمين, الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا " .
ويستوي في وجوب العدل, أن يكون تجاه الغير أو حيال النفس .. بل إن تحريم الإسلام ظلم الإنسان أن يتنازل عن " حقه " فيه فيظلم نفسه! { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا. إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً. فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا }. النساء 97 ـ 99.
وحتى هؤلاء المستضعفين, فرض الله على القادرين الجهاد لتحريرهم من الاستضعاف :{ ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا }النساء 75.
وتؤكد هذا المعنى ـ تأثيم ظلم الإنسان لنفسه ـ الآية الكريمة : { الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعلمون. فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين } النحل 28, 29 كذلك يستوي في وجوب العدل أن يكون تجاه " العدو " كما هو واجب تجاه " الولي ".. فالعدل شيء و " الموالاة " ـ أي النصرة ـ شيء آخر ..
وإذا كان الإسلام ينهى المسلمين عن موالاة أي نصرة ـ أعدائهم, الذين يقاتلونهم في الدين أو يخرجونهم من الديار, أو يظاهرون على إخراجهم منها.. فإنه يوجب عليهم العدل حتى مع الأعداء, ومع من يكرهون!: { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون } المائدة { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً } النساء 135 .
وإذا كان العدل فريضة واجبة, وضرورة اجتماعية للإنسان وعليه, تجاه نفسه, وتجاه الآخرين, موالين ومحبوبين كان هؤلاء الآخرون, أم معادين مكروهين, فإنه كذلك فريضة وضرورة في مختلف الميادين, في القانون وأمامه, وفى الشئون الأدبية والمعنوية, وفى أمور المال والثروة والاقتصاد والمعاش .. أي التكافل الاجتماعي.