أُحضر إلى الخليفة المأمون رجل قد أذنب ذنباً، فقال الخليفة له برفق: أأنت الذي فعلت كذا وكذا؟؟ قال: نعم.. يا أمير المؤمنين.. أنا ذلك الذي أسرف على نفسه، واتكل على عفوك.. فعفا عنه وخلى سبيله، فاستقام أمره، وصلح شأنه.
وأُحضر الى الخليفة الهادي رجل من أصحاب عبدالله بن مالك فلامه بلهجة ودية على ذنب؛ فقال: يا أمير المؤمنين: إن اقراري يلزمني ذنباً لم أفعله، ويلحق بي جرما لم أقف عليه، وإنكاري رد عليك ومعارضة لك.. ولكني أقول:
فإن كنت تبغي بالعقاب تشفياً
فلا تزهدن عند التجاوز في الأجر
فقال الخليفة مبتسماً: لله درك من معتذر بحق أو باطل - ما أمضى لسانك.. وأثبت جنانك.. وعفا عنه..
٭٭٭
ومن المعالجات الحصيفة الناجعة لما يرتكبه البعض من أخطاء ما قام به ذلك الرجل الذي أعرف عنه صفات حميدة كثيرة - هو في الخمسين من عمره.. شخصيته قيادية في الحياة والعمل، مستقيم السلوك - معتدل السيرة، محب للخير، لم يعرف عنه انحراف قط.
أنهى أكبر أبنائه الدراسة الجامعية - لكنه وللأسف صار بعد تخرجه في الجامعة من رواد الليل - سهراً وسكراً، ولم يكن الوالد التقي على معرفة بهذا السلوك للابن الضال.. لكنه عرفه مؤخراً.
جرت عادة الابن أن يعود متأخراً بالليل - بعد قضاء سهراته، ويفتح الباب الخارجي بمفتاحه.. ويتسرب إلى حجرته - حيث لا يراه أحد، ولما تنبه الأب لهذا السلوك لابنه.. قام بعمل مزلاج داخلي للباب الخارجي لا يستطيع من في الخارج أن يفتحه.. بل لا بد من فاتح بالداخل.
وفي ليلة عاد الابن كعادته متأخراً - وحاول الدخول فوجد ما لم يتعوده من يسر الانطلاق إلى الداخل، فطرق الباب برفق حتى لا يوقظ والده.. ليفتح له من يحتلون الغرف القريبة للباب الخارجي من عمال المنزل، لكن والده لم ينم تلك الليلة، وظل في انتظار ابنه.. ولما طرق الابن الباب - قال الوالد: من أنت؟ اذكر اسمك.. قال: أنا فلان ابن فلان الفلاني.. وكان صوته مرتخياً نتيجة تناوله المسكر.
قال الأب: إن الاسم الذي تقول إنك هو لا يمكن أن يسهر خارج المنزل لمثل هذا الوقت المتأخر من الليل أو أن يفعل بنفسه ما تبدو عليك آثاره.. وإن صاحب هذا الاسم الذي ذكرته أعرف عنه رجاحة في العقل، وحكمة في التصرف، واستقامة في السلوك، وتقوى تمنعه من الوقوع في المحظورات..
واسترسل الأب قائلاً: هذا الاسم هو لرجل ينتمي إلى عائلة كل أفرادها أتقياء عُباد.. معروفة مكانتهم الحميدة في مجتمعهم. تلك المكانة التي تبؤوها بفضل حسن سلوكهم، وطيب استقامتهم.
فاذهب فربما تكون مخطئاً في الاسم والعنوان.
حاول الابن أن يقنع والده بأنه هو ابنه - لكن الأب تظاهر باستحالة ذلك - فما كان من الابن إلا أن عاد أدراجه ليقضي بقية ليلته كما قضى أولها..
وفي الغد جاء الابن إلى والده - وقبّل رأسه معتذراً نادماً.. آسفاً بشدة - وأقسم يميناً مغلظة أنه لن يعود لمثل ذلك أبداً..
وبالفعل استقام الابن في حياته، ونجح في تقويم سلوكه، وبلوغه شأناً عالياً في قومه.
***
هذه قصة واقعية.. أرى أنه بمثل هذه الطريقة التي عالج بها الأب انحراف ابنه يمكن أن نعالج بمثلها الكثير من الأمور دون ضجة أو عنف.. فإن اختيار الدواء المناسب أهم من الدواء نفسه.
ولكم كانت القسوة طريقاً إلى مزيد من الانحراف، وكم كان العنف في علاج القضايا - خاصة مع الأبناء - سبيلاً إلى العناد والتمادي.
إن الغلظة في المعاملة.. وعنف التأنيب في المواقف الخاطئة، وتجاوز الحد في تأديب الفتية قد يكون زيادة في الداء..
لهذا.. طالما ناديت - مثل كثيرين غيري - بالرفق في كل الأمور.. فالرفق ما ارتبط بشيء إلا زانه.. وما فارق شيئاً إلا شانه.
ترى ماذا كان يحدث لو أن الأب ضرب ابنه.. أو صاح عند دخوله المنزل ليلاً، وأسمع الجيران والعمال.. ربما خرج الابن هائماً على وجهه ولم يعد..
لذا فإني دائم القول بأن تجاوز الحد في التسخيف بالآخرين والتسفيه لهم لن يؤدي إلى علاج - بل سيزيد الطين بلة؛ لأن عزيز النفس لا يطيق الهوان.
وكمثل هذا الموقف تحضرني قصة في تراثنا العربي تؤكد ذلك.
كان سليمان بن وانوس رجلاً جليلاً أديباً، وكان وزيراً عند الأمير عبدالله صاحب الأندلس من بني أمية، فدخل عليه يوماً وكان عظيم اللحية. فلما رآه الأمير مقبلاً جعل يهجوه بأبيات تدل على الاحتقار والازدراء. فقال له سليمان وقد غضب: أيها الأمير: إن الناس يرغبون في هذه المنزلة ليدفعوا عن أنفسهم الضيم، وأما إذا صارت حالتهم للذل. فلنا دور تسعنا وتغنينا عنكم.. فإن حلتم بيننا وبينها.. فلنا قبور تسعنا، ولا تقدرون على أن تحولوا بيننا وبينها.
ثم خرج من غير أن يسلّم، فغضب الأمير.. وأمر بعزله عن الوزارة.. ورفع دسته (مجلسه) الذي كان يجلس عليه، وبقي على ذلك مدة.
ثم إن الأمير حزن على فقده لعفافه، وأمانته ونصحه وفضل رأيه؛ فقال للوزراء: لقد حزنت لفقد سليمان، وإن أردت استرجاعه وتبرأ منا كان ذلك غضاضة علينا. فوددت أن يبدأنا بالرغبة؛ فقال له الوزير أبو محمد بن الوليد: إن أذنت لي بالمسير إليه استنهضته إلى هذا. فأذن له، فنهض إلى دار سليمان واستأذن له، وكانت رتبة الوزارة بالأندلس أمام بني أمية ألا يقوم الوزير إلا لوزير مثله.. فإنه كان يتلقاه وينزل معه على رتبته، ولا يحجبه لحظة. فأبطأ الإذن على أبي محمد حينا، ثم أذن له. فدخل عليه. فوجده قاعداً. فلم يتزحزح له، ولا قام إليه.
قال له أبو محمد: ما هذا الكبر، عهدي بك وأنت وزير السلطان وفي أبهة رضاه. تتلقاني على قدم، وتتزحزح لي عن صدر مجلسك. وأنت الآن في موجة (غضبه) بضد ذلك، فقال له: نعم. لأنني كنت حينئذ عبداً ذليلاً مثلك.. أما الآن فأنا حر عزيز النفس.. فيئس أبو محمد منه، وخرج ولم يكلمه، ورجع إلى الأمير فأخبره.. فابتدأ الأمير بالإرسال إليه، ورده إلى أفضل مما كان عليه لشرفه وعزة نفسه.
وهكذا افتقد الأمير خيرة رجاله حينما هجاه بأبياته التي تدل على الاحتقار والازدراء.. ونجح في استعادته حينما عامله باللين والرفق، وأعاده إلى أشرف ما كان عليه من منصب وعزة نفس.
٭٭٭
من هنا أقول.. يجب أن ندل أبناءنا والآخرين ممن لهم صلة بنا على مواضع القوة فيهم حين يخطئون.. والتخفيف لما يفعلون.. بقصد الإفهام الناصح، والرد إلى الصواب بالقول الناجع.
نثير فيهم حمية النفس بإظهار المتوقع منهم من الخير ومن عناصر المروءة والاستقامة.. فإن ذلك يبعث فيهم الحمية - ويذكي وهج الجد والفضيلة. ويشعرهم بعلو مكانتهم - وأن هذه سقطة لا تليق بهم.. عند ذلك سوف يرونها نقيصة في حقهم، ويتداركون عدم العودة إليها في تصرفاتهم.
دائماً.. يكون العلاج باليسر خيراً من العنف.
٭٭٭
نعم.. هذا هو منطلق التعامل الإنساني بصدقه وعمقه، إذ هو العنصر الأهم في الحياة عامة، بما في ذلك الحياة الأسرية، والعلاقات الاجتماعية.. وفي مجال العمل خاصة، وإن ما ندركه بالرفق وحسن التأني، ولين الجانب، وحسن التقدير وسمو التعامل وما نسميه محلياً (العلم الغانم) أضعاف ما ندركه بالعنف والقوة والعبوس، والتجهم والتسفيه.. مصداقاً للقول الحكيم (خيرت بين اللين والسيف فوجدت اللين أقطع).
٭٭٭
تلك القصص الواقعية تنطبق على كثير من مجالات الحياة حولنا.. ففي الميدان العملي على الرئيس أن يبين لمرؤوسه حين يقصر في عمله أنه بإمكان ذلك المرؤوس أن يعمل أفضل - لأنه يملك القدرة والطاقة الأعظم - وليس من عادته الخطأ أو التقصير.
وأذكر في هذا المقام سرعة بديهة من شاب ارتكب خطأ قال له والده في حالة غضب عليه: إني لم أعهد فيك خيراً أبداً - فرد الابن قائلاً.. وسأبقى على عهدك يا أبي.
ولو أن هذا الأب قال: عهدت فيك الخير، ومنك دائماً أتوقعه - فكيف حدث منك هذا التقصير - لجاء جواب الابن.. آسف يا أبي.. لن أعود لمثل ذلك أبداً.
٭٭٭
التربية فن... ومواجهة الأخطاء حنكة، وقدرة، وفكر، وخير لك أن تنصح قبل أن تعنف وتلوم.
وخير للجميع الثناء الفاعل.. وذكر الخير الكامن؛ فإن ذلك مدعاة للتمسك به إن كان حقاً والإتيان به إن كان غائباً.
شكر وعرفان:
لجميع إخواني القراء وأخواتي القارئات الذين هاتفوني سائلين عن سبب عدم نشر حديث الثلاثاء في الأسبوع الماضي أقدم خالص شكري لهم، ولقد كانت تساؤلاتهم وهواتفهم الكثيرة مدعاة للاستمرار، وزاداً مضافاً لمتابعة الكتابة.
٭٭٭
وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب، والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.
محمد بن أحمد الرشيد