أودع الله في الإنسان خاصية الضحك وخاصية البكاء، يقول تعالى: «وأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى»، جاء في تفسير الطبري: «ليس في سائر الحيوان من يضحك ويبكي غير الإنسان، فالقرد يضحك ولا يبكي، والإبل تبكي ولا تضحك».
فالضحك والبكاء، من أسرار التكوين البشري، مهما اختلفت أسبابهما، وتباعدت صفاتهما، تشكلان: لغة الشعور والعاطفة، وتعبران عن دخائل النفس، سواء بالضحك كتعبير عن الفرح، أو بالبكاء كمُعبِّر عن مآسي الحياة.
وللبكاء شأن عظيم في حياة الإنسان، ما دام في موضعه ولم يتجاوز القدر المباح، كأحد أشكال التواصل الإنساني، ودليل على رقة الحس، بدونه تقسو القلوب، ويفقد الإنسان القدرة على تحقيق الراحة النفسية، ويكفي أنه أعظم ما تقرّب به العابدون، كما في قوله تعالى:»وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعا»، وهذا الوصف مدح للعابدين، الراغبين في الله خوفاً وبكاءً وتذللاً (القرطبي).
كذلك الضحك، موقعه من سرور النفس عظيم وحميد، ففيه راحة للقلب، وتجديد للنشاط، وهو جمال، فهو شبيه بالفجر إذا تنفس والبرق إذا لمع، ويكفينا أن الله - سبحانه وتعالى - يضحك ضحكاً يليق بجلاله، روي عن رزين أنه قال: «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: ضَحِكَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ .. قَالَ، قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَ يَضْحَكُ الرَّبُّ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قُلْتُ: لَنْ نَعْدِمَ مِنْ رَب يَضْحَكُ خَيْراً (ابن ماجة).
ويرى علماء النفس أنه لا ينبغي للإنسان حبس دموعه، بل عليه أن يتركها تسيل، فهي، سواء للرجل أو المرأة، صحة وقوة! وجاءت في بعض التفاسير قصة معبّرة: أن نبي الله يحيى - عليه السلام - كان كثير البكاء، فرأى يوماً، ابن خالته، النبي عيسى - عليه السلام - ضاحكاً، فتعجب لأمره! فاختلفا، فاحتكما إلى الوحي الذي فضَّل عيسى، في هذا الموقف، لتوسطه وحُسن ظنه بالله، على يحيى البكَّاء! وإن صحت هذه الرواية أو لم تصح، إلا أنها تعبر عن الإسلام الوسطي في مسألتي الضحك والبكاء.
ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القدوة، في صفة الضحك وصفة البكاء، تقول عائشة - رضي الله عنها: «ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستجمعاً، أي مبالغاً، في الضحك قط حتى أرى منه لهواته، أي اللحمة التي في أعلى الحنجرة من أقصى الفم، إنما كان يبتسم»، وعندما يكون مبالغاً في ضحكه - صلى الله عليه وسلم - تبدو نواجذه، ولم يكن يقهقه، ولا يُخرج صوتاً، بل كان تبسّماً هادفاً، اشتمل على التربية، والدعوة والمداعبة، والتأليف بين القلوب، ولم ينه - صلى الله عليه وسلم - عن الضحك كتبسم، بل نهى عن كثرة الضحك والمبالغة فيه، فقال - صلى الله عليه وسلم: « .. إن كثرة الضحك تميت القلب» (ابن ماجة).
كذلك بكاؤه - صلى الله عليه وسلم - كان توجيهاً، وتربية ومواساة ورحمة، كان يذرف الدمع، وربما رافق الدمع أزيز، لا نياحة فيه، تضطرب معه النفس وتتحرك كأنها قربة تغلي، ولكن على قاعدة: «إن العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا» (البخاري).
إلا أن القارئ، لمواضيع البكاء والضحك، مع اختلاف مقاصدهما، يستشعر علاقة بينهما لا تنفك .. فإذا كان المؤمن مفطورا على الضحك، كغريزة وضعها الله فيه، تطييباً للنفس وتآلفاً مع الآخرين، ومدعاة لحُسن الظن بالله، فهو كذلك مفطور على غريزة البكاء، خشية من الله، وتعبداً، وتميزاً عن اللاهين .. فسبحان الله! حقاً إن الإسلام دين الوسط، فلا ضحك طاغيا ولا بكاء فانيا.
إلا أننا نجد، بعض الناس، في واقعنا المعاش، يكتمون فرحهم ونجاحهم خشية الحسد والغيرة، وبعضهم يكتم الحزن والفشل خشية الشماتة، أو الاثنين معاً، والكتمان هنا إنما هو كبت للعاطفة وسجن للمشاعر، بخاصة أن في الضحك والبكاء ترفيها للنفس، وترويحا للروح وراحة للجسد.
والعجيب، أن الذهنية العربية تعيب بكاء الرجل، فتحرمه هذه النعمة! التي إن حبسناها، كما تقول الدراسات، تسبب تسمماً في الجسم، يؤدي إلى أنواع شتى من الأمراض النفسية والجسدية، كما تتسبب في تكوين الشخصية العدوانية، غير المتفاعلة مع المجتمع، أما الضحك، كما بيناه، فله فوائد لا تُحصى، ويكفي قوله - صلى الله عليه وسلم: «تبسمك في وجه أخيك لك صدقة»(الترمذي).
فلنضحك باتزان ولنبك باتزان، تحقيقاً للفطرة، مغلبين حُسن الظن بالله سبحانه وتعالى.
د.خالد صالح الحميدي