بدأنا بالرد على شبهات التكفير؛ لأن التكفير هو الأصل الذي تنبني عليه جميع الشبهات غالبًا، فاستحلال دماء الحاكم وغيره من فئات المجتمع جعلوا السبب فيه الكفر، واستباحة دماء غير المسلم من معصومي الدم؛ لأن الأصل فيه الكفر ولأن الأمان له في ديار الإسلام إن دخلها فهو صادر عن حكومة كافرة، وكان التكفير هو المبرر للعمليات التفجيرية وللاعتداء عمومًا، وطالما أن هذه الفئات تكفر فقد وجب جهادها، فرأيت أن نرد شبهات التكفير أولا ثم يأتي رد ما ينبني عليه غالبًا من شبهات الاعتداء والتفجير واستباحة الدماء والجهاد.
و«التكفير» مشترك لفظي يدخل فيه تكفير الذنوب، وتكفير اليمين عند الحنث فيه، والتكفير في الصلاة... وغير ذلك مما أوردته كتب اللغة(1)، وكلّ له معناه.
ولفظ «الكافر» يطلق على أفراد كالزارع، والمشْرك، ولابس السلاح، فيشترك الجميع في المعنى اللغوي وهو التغطية، بمعنى أن الزارع يغطي بذوره في أرضه، والمشرك أو الكافر يغطى نعم الله وقلبه بكفره، ولابس السلاح يغطى جسده بسلاحه، فتشترك هذه المفردات في التغطية، ولكنها تختلف فيما يُغطى ومعناه(2).
والتكفير: اسم مصدر(3)، ومعه لفظ الكافر يشتركان مع غيرهما في التسمية فقط، ويختلفان في المعنى والكيفية.
وقد رأيتُ أن «التكفير» عند المغالين هو إطلاق لفظ «كافر» على شخص بعينه، وبذلك قد خصوا «التكفير والكافر» بقضية نسبة المعين إلى الكفر.
وعلى هذا فإن «التكفير» ويدور معه إطلاق لفظ «كافر» يراد به في هذه الدراسة معنيين:
المعنى الأول: «التكفير» بمعنى اعتقاد كفر أحد من المسلمين، قال ابن الأثير في حديث: «لا ترجعن بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض»(4) معناه: لا تعتقدوا تكفير الناس كما يفعله الخوارج إذا استعرضوا الناس فيكفرونهم(5).
والمعنى الثاني: «التكفير» بمعنى نسبة المسلم إلى الكفر، فيقال: «أكفره، وكفره» أي: دعاه كافرًا، قال أهل اللغة: يقال: لا تكفر أحدًا من أهل قبلتك؛ أي: لا تنسبه إلى الكفر(6)، وفي التاج: أن التكفير اسم مصدر.
ويجمع المعنيين قولنا في تعريف التكفير لغة بأنه: «الحكم بالقول أو الاعتقاد بخروج شخص معين من الإسلام، كأن يُقال أو يُعتقد أنه كافر».
وهذا البحث اللغوي «للتكفير والكافر» أردت من خلاله الوصول إلى أن الردود على شبه التكفير ليس مناطها رد التصريح بنسبة معيَّن إلى الكفر، بل كذلك الشُّبه التي اعتقدت أيضًا، فمن الممكن أن يخطئ أحد الناس في اعتقاده بكفر شخص معين دون أن يتحدث بذلك، حتى لا يعترض عليه أحد، أو لأي سبب آخر، فغايتنا أن نرد -على السواء-: الاعتقاد الخاطئ في تكفير المسلم بدون إفصاح أو تصريح، والتكفير المصرح به على الأعيان بنسبتهم إلى الكفر، وكلا المعنيين ثابتين في اللغة كما تقدم، وشبهات التكفير اعتقادًا وتعيينًا نرد عليها فيما يلي من مطالب.
الرد على الشبهة الأولى
شبهة التكفير تعيينًا
المراد بالتكفير تعيينًا: هو نسبة شخص باسمه أو بصفة عمله إلى الكفر اعتقادًا أو تصريحًا بخروجه من جملة أهل القبلة أو الإسلام، نحو تكفير الغلاة لحاكم بعينه أو لعالم أو أي معين من الأمة، سواء صرحوا أو اعتقدوا بذلك.
الشبهة من كلام الغلاة:
يقول أبو بصير الطرطوسي ردًا على الدكتور سلمان العودة في مسألة تكفير الأعيان: «السنة لم تحذر من تكفير المعين، وأهل العلم كفروا المعين، والأدلة على ذلك كثيرة: فالسُّنة لم تحذر من تكفير مطلق الأعيان والأشخاص كما زعم الشيخ، وإنما حذَّرت من تكفير المسلمين بالذنوب والمعاصي التي هي دون الكفر والشرك، أو تكفيرهم بالظن والمتشابهات، وبما لا يوجب التكفير، فهلاَّ أشار الشيخ إلى ذلك فاستراح وأراح»(7).
والرد على هذه الشبهة من خلال الأمور الآتية:
الأمر الأول: أن هذه الشبهة تصطدم أول ما تصطدم بقواعد التفكير لدى أهل السنة والجماعة، وهذه القواعد هي:
أولا: أن التكفير حق من حقوق الله تعالى، ومن حقوق رسوله عليه الصلاة والسلام.
فلا ينص بالتكفير على أحد من أهل القبلة إلا بإقامة الحجة من الكتاب والسنة، فلا يجوز تكفير إلا من كفره الله ورسوله، فهما مصدرا الأدلة الشرعية ومنها أدلة التكفير، فإذا قامت هذه الأدلة وتم الوقوف والتأكد أن هذا المعيَّن قد علم بأنه يكفر بهذا الفعل وفعله جحودًا وإنكارًا، فقد قام الدليل بذلك على كفره.
يقول ابن تيمية في هذا الإطار: «الكفر حكم شرعي، وإنما يثبت بالأدلة الشرعية »(8).
وفي موضع آخر يقول: « فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم وإن كان ذلك المخالف يكفرهم؛ لأن الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله كمن كذب عليك وزنى بأهلك ليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله لأنَّ الكذب والزنا حرامٌ لحق الله. وكذلك التكفير حق لله فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله، وأيضًا فإن تكفير الشخص المعين وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها، وإلا فليس كلُّ من جهل شيئا من الدين يكفر...»(9).
ومن هذه القاعدة نستلخص عدة محاذير:
1- أنه لا يثبت التكفير على قول إلا بدليل شرعي؛ لأن الكافر هو من كفره الله ورسوله.
2- أنه لا يحكم في التكفير إلا العالم بالأدلة الشرعية.
3- أنه لابد من تعلم أحكام التكفير والتفقه في هذه المسألة لمن أراد الحق؛ لأنه حكم شرعي؛ ولأن له أهمية كبيرة لارتباطه بكثيرٍ من الأحكام الشرعية، فإن النكاح مثلا متوقف على كون الزوج مسلمًا.
4- أنه لا يصح ولا يجوز مجاوزة الحدِّ الشرعي فيه، لا بالإفراط ولا بالتفريط.
ثانيا: عدم الخلط بين التكفير المطلق والتكفير المعين.
وهذا الخلط بدا من قول المغالي: «السنة لم تحذر من تكفير المعين، وأهل العلم كفروا المعين والأدلة على ذلك كثيرة: فالسُّنة لم تحذر من تكفير مطلق الأعيان والأشخاص».
وهذا الكلام مرسل يفتقد إلى ضوابط كثيرة، أولها وأعظمها فهم السنة، فإن السنة حذرت من التكفير المطلق على الأعيان والأشخاص، بالإضافة إلى بيانها الشافي لأوصاف الكافرين، فينبغي التفريق بين الوصف بالكفر وبين إطلاق الكفر على معين، وكان هذا مذهب أهل السنة والجماعة، واتجهت الخوارج إلى التكفير المطلق، مخالفين بذلك المنهج الحق.
قال ابن تيمية: «فليس لأحدٍ أن يُكفر أحدًا من المسلمين وإن أخطأ وغلِط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة، ومن ثبت إيمانه بيقين لم يَزُلْ ذلك عنه بالشك بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة»(10).
وقال في موضع آخر: « تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين، فإن بعض العلماء قد يتكلم في مسألة باجتهاده فيخطئ فيها فلا يُكفر، وإن كان قد يُكفر من قال ذلك القول إذا قامت عليه الحجة المكفرة...»(11).
وجلى هذا الاتجاه في موضع ثالث فبيَّن أن هناك تفريقا بين أوصاف الكافر بأن يقال: من فعل كذا وكذا يكفر، فهذا حق، لكن لا يستلزم ذلك التكفير تعيينًا فهو يقول: « ما نُقل عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو حقٌّ، ولكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين»(12).
ثالثًا: مراعاة توافر شروط الكفر في المعين، وانتفاء الموانع.
ظهر من قول المغالي أنه يسمي التكفير المطلق بـ«تكفير الأعيان المطلق، وهذا ترد عليه الأحاديث الناهية عن تعيين الكافر إلا إذا أقيمت الحجة، وهذا الاستثناء يرد الإطلاق الذي نراه من قول المغالي، فقد ورد في حديث: «إذا قال الرّجل لأخيه: يا كافر، فقد باء به أحدهما، فإن كان كما قال، وإلا رجعت عليه»، فهو نهي عن التعيين، ومثل هذا الحديث وما يشبهه في موضوعه فتح الباب أمام العقلاء من العلماء للوقوف على القول بعدم جواز تكفير المعين، مفرقين بين الوصف وبين التعيين، باحثين عن شروط معينة للتكفير، فإذا وجدت في معين فقد أقيمت الحجة عليه، ناظرين ومراعين انتفاء الموانع في المحكوم عليه بالكفر.
وهذه القيود التي وضعها العلماء كانت لعظم خطورة التكفير والغلو فيه، وقد عدّ العلماء شروطًا أربعة للتكفير تقابلها أربعٌ من الموانع؛ وهي:
الشرط الأول: توفر العلم وانتفاء الجهل.
ويكون الجهل مانعًا من التكفير بمعنى لم يبلغه العلم بأن الفعل الذي وقع فيه فعلا مكفرًا، وعند العلم به يجب أن لا يقع فيه، ولا يعذر المعرض إن تمكن من العلم.
قال القرافي: «لأنَّ القاعدة الشرعية دلت على أنَّ كل جهل يمكن المكلف رفعه لا يكون حجة للجاهل لا سيما مع طول الزمان واستمرار الأيام، فإنَّ الذي لا يُعلم اليوم يُعلم في غدٍ ولا يلزم من تأخير ما يتوقف على هذا العلم فسادٌ فلا يكون عذرًا»(13).
وقال البعلي: «جاهل الحكم هل هو معذورٌ أم لا؟ ثم قال: فإذا قلنا: يُعذر، فإنما محله إذا لم يُقصِّر ويُفرِّط في تعلم الحكم أما إذا قصر أو فرَّط فلا يعذر جزمًا»(14).
ويفهم من هذا أن الجهل يعتبر مانعًا لمن كان عنده أصل التوحيد، لكن خفيت عليه بعض المسائل التي قد تخفى أو تُشكل على مثله.
الشرط الثاني: توفر القصد وانتفاء الخطأ.
وانتفاء الخطأ يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ﴾ [الأحزاب: 5].
ومعنى انتفاء الخطأ أي: أن يقصد الفاعل إتيان الفعل المكفر، ولا يقصد الكفر نفسه.
ومعنى توافر القصد أن يقصد الحاكم مثلا الحكم بغير ما أنزل الله جحودًا من عند نفسه ومضاهاة لحكم الله، ورفضًا له، وسيأتي مزيد بيان لهذا الكلام.
الشرط الثالث: توفر الاختيار وانتفاء الإكراه.
وانتفاء الإكراه يدل عليه قوله تعالى: ﴿إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾ [النحل: 106].
وحال الإكراه يضرب له المثل بفعل عمار بن ياسر رضي الله عنه، فعن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير، ثم تركوه، فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما وراءك؟"، قال: شر يا رسول الله، ما تُركتُ حتى نلتُ منك وذكرتُ آلهتهم بخير. قال: " كيف تجد قلبك؟" قال: مطمئن بالإيمان. قال: "إنْ عادوا فعُدْ"(15).
ويقاس عليه كل فعل صدر في حال الإكراه مع الاطمئنان القلبي بالإيمان، وهذا الكلام ليس على إطلاقه، بل هناك شروط للمكره وهي:
1- أنْ يكون المُكْرِهُ قادرًا على إيقاع ما يهدد به، والمُكْرَهُ عاجزٌ عن الدفع ولو بالفرار.
2- أنْ يغلب على ظن المُكْرَهِ أنه إذا امتنع أُوقِع به ما يُهدَّدُ به.
3- أنْ لا يظهر على المُكْرَهِ ما يدُّل على تماديه، بأن يعمل أو يتكلم زيادة على ما يمكن أنْ يدفع به البلاء.
4- أنْ يُظهر إسلامه متى ما زال عنه الإكراه.
5- أنْ يكون ما يُهدَّدُ به مما لا طاقة لا به، ويعبر عنه عند الأصوليين بـ(الإكراه الملجئ)، كأن يُقطع منه عضوٌ(16).
وعليه، فإن المسلم يبنغي أن يفرق في مسائل التكفير بين فعل الكفر، ثم العودة إلى إظهار الإسلام، وبين الإقامة على الكفر والبقاء عليه.
الشرط الرابع: انعدام التأويل السائغ والمانع وجود التأويل السائغ.
ومعنى التأويل: وضع الدليل الشرعي في غير موضعه.
ومعنى التأويل السائغ: وهو الذي له مُسوِّغٌ في الشرع أو في اللغة، مثل: تأويل المتكلمين لليد بالقدرة.
والتأويل غير السائغ: هو التأويل الذي ليس له مُسوِّغٌ في الشرع أو في اللغة، ويكون صادرًا عن محض الرأي والهوى؛ مثل تأويل الرافضة لقوله تعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان﴾ بالحسن والحسين، وهو غيرُ مقبولٍ، ومثل هذا التأويل لا يمنع من تكفيرهم؛ لأنَّ ادعاء التأويل في لفظٍ صُراحٍ لا يُقبل(17).
وقال ابن الوزير: "لا خلاف في كفر من جحد ذلك المعلوم بالضرورة للجميع، وتستر باسم التأويل فيما لا يمكن تأويله، كالملاحدة في تأويل جميع الأسماء الحسنى بل جميع القرآن والشرائع والمعادِ الأخروي من البعث والقيامة والجنة والنار"(18).
وعلى هذا فإن التكفير على التعيين بالنسبة للحاكم وغيره مع وجود التأويل المستساغ في الأدلة ووقوع الاحتمالات في الدليل الواحد يمنع من التكفير.
فهذه الشروط وفي مقابلها الموانع تمنع تكفير المعين في الوقت الحاضر فلا يخرج ما يقعون فيه -فيما يبدو للبعض أو للمغالين بأنه كفر- عن واحد مما يأتي:
•خطأ في القصد.
•أو جهل بالحكم.
•أو تأويل مستساغ مع وجود التأويلات والاحتمالات الكثيرة في الأدلة والنصوص الشرعية.
•أو إكراه مسبب وله ظروف معينة مع إظهار الإسلام أصلا.
وهذه الشروط تمنع التكفير المطلق للأعيان كما سماه المغالي، وذلك لأن وجود هذه الشروط وفي مقابل كل شرط ما يمنع منه يترتب عليه ما يلي:
1- أن الفعل أو القول الذي وقع فيه المعين غير صريح في الكفر ولا يدل عليه لاحتمال الجهل أو الخطأ أو التأويل أو الإكراه.
- أن الدليل الذي استدل به المغالي على كفر المعين غير قطعي في دلالته على أن ذلك الفعل أو القول مكفرًا، وذلك بسبب التأويلات وتطرق الاحتمالات، كما سيتبين في الكلام على أدلة التكفير عن قريب.
3- عدم ثبوت الكفر شرعًا على المعين عند انتفاء واحد من هذه الشروط، أو تحقق مانع من هذه الموانع.
الأمر الثاني: في قول المغالي: " السنة لم تحذر من تكفير المعين، وأهل العلم كفروا المعين، والأدلة على ذلك كثيرة: فالسُّنة لم تحذر من تكفير مطلق الأعيان والأشخاص" اجتراءً على السنة وافتراءً على أهل العلم؛ لأن السنة حذرت من تكفير الأعيان على الإطلاق، وحذرت من الوقوع في الكفر قولا وفعلا، وحذرت من الغلو في التكفير، فالسنة لم تأمر بتكفير المعين مطلقًا، ولم تأمر بالتكفير بشبهة لخطورة ذلك، ولم تأمر بالغلو في التكفير كما فعل المغالين.. فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يرمي رجلٌ رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك"(20).
لينظر المغالي في قوله صلى الله عليه وسلم: «إن لم يكن صاحبه كذلك»، فالمغالي مطالب بإجراء الشروط والنظر في انتفاء الموانع، ودراسة الأقوال والأفعال والوصول إلى البواطن، والنظر في السلوك الشخصي، ومعنى وقوع أو تطبيق معالم الإسلام وفروضه من المعين ودراستها وبعد كل هذا وغيره يصدر حكمه في تكفير المعين وإلا «ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك».
وأهل العلم فطنوا إلى ذلك فلم يكفروا المعين على الإطلاق كما قال المغالي؛ فهذا هو الإمام ابن دقيق العيد يقول عن دلالة الحديث: "وهذا وعيدٌ عظيمٌ لمن كفَّر أحدًا من المسلمين وليس كذلك وهي ورطة عظيمة وقع فيها خلق كثير من المتكلمين ومن المنسوبين إلى السنة وأهل الحديث لَمَّا اختلفوا في العقائد فغلظوا على مخالفيهم وحكموا بكفرهم وخرق حجاب الهيبة في ذلك جماعة من الحشوية، وهذا الوعيد لاحق بهم إذا لم يكن خصومهم كذلك..."(21).
وقال الإمام الشوكاني: "اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار، فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة: "أن من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما"، هكذا في الصحيح، وفي لفظ آخر في الصحيحين وغيرهما: "من دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه" أي: رجع. وفي لفظ في الصحيح: "فقد كفر أحدهما". ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير..."(22).
ولو استقصيتَ كلام أهل العلم على هذه الأدلة التي اختصرها الإمام الشوكاني لوجدت معي مدى افتراء المغالي على أهل العلم في قوله من أن العلماء كفروا المعين على الإطلاق.
الأمر الثالث: لقد وقع المغالي في تناقض غريب ظهر من خلال كلامه واعتراضه على الشيخ سلمان العودة فقال كما سبق: "إنما حذَّرت –أي السنة- من تكفير المسلمين بالذنوب والمعاصي التي هي دون الكفر والشرك، أو تكفيرهم بالظن والمتشابهات، وبما لا يوجب التكفير، فهلاَّ أشار الشيخ إلى ذلك فاستراح وأراح".
وهذا يدل على عدم فهمه للسنة رواية ودراية، فما الظن والمتشابهات ببعيدة عما قلناه مما تقدم من وضع الشروط وعدم انتفاء الموانع ودراسة الموقف جيدًا؛ لخطورة التسرع في الحكم بالكفر على المعين من المسلمين.
وإني أرى أن المغالي تناقض من حيث:
1- قيد الإطلاق الذي دافع عنه من أن السنة لم تحذر من تكفير مطلق الأعيان، فقيده بقوله هنا: " إنما حذَّرت –أي السنة- من تكفير المسلمين بالذنوب والمعاصي التي هي دون الكفر والشرك، أو تكفيرهم بالظن والمتشابهات، وبما لا يوجب التكفير". وهذا لأن المغالي لا يستطيع أن يغفل أو يكذب ما حذرت منه السنة من خلال أحاديث التحذير من التكفير والغلو فيه، والذي نرد عليه من خلالها، وإنما بدأ الكلام بإظهار منهجه التكفيري على الإطلاق، ثم قيد بعد ذلك، فيبدو أن إظهار المنهج التكفيري أهم لديه مما في السنة ذاتها.
2- مناط الحكم بالتكفير "الشرك والكفر" الصريحان متحققًا فيهما شروط التكفير وانتفاء الموانع وذلك يتطلب دراسة الأفعال والأقوال المكفرة كما تقدم، ومناط الحكم بالتكفير لدى المغالي أن التكفير أكبر من المعاصي والذنوب، ويوصي بعدم التكفير بالظن والمتشابهات، وبما لا يوجب التكفير، فخصص بعدما عمم.
فكلامه حق ويهدم منهجه وهذا ما نريده، فقد أتعبنا من تناقضه هذا، فلم يتناقض الشيخ سلمان العودة مثل تناقض المغالي حتى يقول له: "فهلاَّ أشار الشيخ إلى ذلك فاستراح وأراح "، فمن الذي أتعبنا من الفهم السقيم، المغالي أم الشيخ؟.
فأستعير منه ما قاله للشيخ سلمان وأقول له: هلا أشرت إلى الشروط والموانع واعترفت بعدم التكفير مطلقًا كما يبدو منك في آخر كلامك؛ فقد قيدت ما أطلقت، وخصصت ما عممت لتستريح وتريح. وإلا فإن تناقضك ما زال قائمًا، تطلق وتقيد وتخصص بعد عموم نافحت عنه في قضية واحدة، مبرزًا منهج التكفير كأصل لك، معرضًا عن منهج الكتاب والسنة، وهما الأصل في إجراء الأحكام على الأشخاص والأعيان.
******
الهوامش:
(1) انظر: تاج العروس (14/60)، ولسان العرب (5/151)، ومختار الصحاح (1/239)، والتكفير في الصلاة هو: الانحناء الكثير في حالة القيام قبل الركوع. انظر: النهاية في غريب الأثر (4/188)، ولسان العرب (5/151).
(2) انظر: لسان العرب (5/146، 151)، ومختار الصحاح (1/239).
(3) انظر: تاج العروس (14/61).
(4) أخرجه أحمد (5/37، رقم: 20402)، والبخاري (5/2110، رقم: 5230)، ومسلم (3/1305، رقم: 1679)، وأبو داود (2/195، رقم: 1947) وابن حبان (13/312، رقم: 5974) عن أبي بكرة عن أبيه.
(5) انظر: النهاية في غريب الأثر (4/185).
(6) انظر: مختار الصحاح (1/239)، والمغرب في ترتيب المعرب (2/225).
(7) انظر: تاج العروس (14/61).
(8) انظر: الرد على سلمان العودة في مسألة تكفير الأعيان لأبي بصير الطرطوسي: ص 24.
(9) انظر: مجموع الفتاوى: 17/78.
(10) انظر: الرد على البكري: 1/381.
(11) انظر: مجموع الفتاوى: 12/501.
(12) انظر: مجموع الفتاوى: 35/99.
(13) انظر: مجموع الفتاوى: 3/230.
(14) انظر: الفروق (4/448).
(15) انظر: قواعده (1/58).
(16) أخرجه الحاكم في مستدركه برقم (3362)، والبيهقي في السنن الكبرى برقم (16673)، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
(17) انظر: التقرير والتحبير (2/230)، وتيسير التحرير (2/258)، وشرح التلويح على التوضيح (2/348).
(18) انظر: التاج والإكليل لمختصر خليل (6/285).
(19) انظر: إيثار الحق على الخلق (1/377).
(20) حديث رقم: (5698).
(21) انظر: إحكام الأحكام: (4/76).
(22) انظر: السيل الجرار: (4/578).
حملة السكينة