الأعراف والتقاليـــد فيها خير وشر. والدعوى إلى كسر الأعراف والتقاليد من قبل فرد أو أفراد معدودين هي دعوى فاسدة، ومخطئ من يُقدم عليها. فالشخص لا يعيش بمفرده بل هو ضمن منظومة معقدة متداخلة بين الأعراف والعادات والعوائل، تشكل في مجموعها التروس التي تحرك المجتمع، فمن وضع نفسه بين التروس ليوقفها طحنته غير آبه به. وكذلك من جانب العدل والمعروف، فالشخص مسئول عن العوائل التي ينتمي إليها برحم أو نسب فلا يحق له كسر أعرافها منفرداً، فالأعراف حق جماعي لا يفتات شخص منفرداً على عائلته به.
القبيلي والخضيري جاهلية متأصلة في نجد خاصة ومتناثرة هنا وهناك في صور مختلفة، وبصورة أخف حدة في باقي أنحاء الديار السعودية. وهذه الجاهلية هي موضوع اجتماعي حضاري أخلاقي مهم، تجاهله والسكوت عنه لا يليق بمجتمع متحضر فضلاً عن الرضا به أو الدفاع عنه. فكيف والحال كونه مجتمعاً مسلماً، يزعم أنه على الكتاب والسنة. والحجة التي يُلجأ إليها دائما لسد باب النقاش والإصلاح في هذا الموضوع من أصله: هو التحدي من أحد أطراف النقاش بأن يكسر صاحب الطرح العرف السائد، ويُزوج أو يتزوج من الطرف الآخر، وهذه حجة سلبية لا دليل فيها، والجدل المصاحب لها جدل عقيم. فوجود قانون فاشل في مجتمع ما ينبغي تغييره « كإشارة ضوئية زال سبب وجودها» لا يكون بخروج الأفراد عليه، بل بتدخل أهل الحل والعقد والمثقفين والعلماء والصحافة حتى يتم تغيير القانون، وأما الخروج عنه فرديا قبل تغييره فهي فوضى وحماقة ويعاقب عليها مرتكبها حسب القانون الفاشل، ولو كان فاشلاً. وكذلك المسألة في الأعراف والتقاليد.
ما يسمى بتكافؤ النسب الذي يصرف البعض معناه إلى عدم تكافؤ عوائل نجد هو مصطلح لا أصل له بهذا المفهوم لا شرعاً ولا عقلاً ولا مروءة. فأما شرعاً: فدعوى تكافؤ النسب على المفهوم النجدي فيه معنى طعن في الحكمة الإلهية التي ارتضت زواج زينب القرشية العدنانية لزيد -المولى العتيق-. وهو أيضا رفض صريح لسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وترفع عن الاقتداء به ورد لمكارم الأخلاق التي أتى بها لإتمامها عليه السلام والذي تزوج زينب بعد ان قضى زيد مولاه منها وطرا. وهوعليه السلام الذي أمر فاطمة بن قيس الفهرية أن ترفض وترد سادات العرب وقريش كمعاوية بن ابي سفيان والجهم - وقد جاءا خاطبين لها - وتتزوج -الأسود فطيس الأنف- أسامة بن زيد، المولى وابن الحبشية أم أيمن -رضي الله عنهم أجمعين-. والجاهلية النجدية هو خروج على هدى الصحابة الغر الميامين وترفع عليهم. فقد تزوج بلال الحبشي أخت عبد الرحمن بن عوف القرشي، وزوج سيد الأنصار أبو حذيفة سالما، وقد كان مولى لامرأة من الأنصار من ابنة أخيه عريقة النسل والحسب هند بنت الوليد.- وكل الآثار والأحاديث إما في البخاري أو مسلم أو متفق عليها ( ما عدا أثر بلال في الدارقطني)- ومتوافقة مع القرآن وروح الشريعة. وكل ما ورد في الدعوة إلى تكافؤ النسب على المفهوم النجدي فهو إما موضوع أو ضعيف أو منكر ومعارض لما في القرآن ولروح الشريعة، ثم تجد الفقهاء -من قديم- يضربون القرآن وصحيح السنة المتواترة وروح الشرع بالموضوع والضعيف ولف أعناق النصوص. (وفقهنا اليوم لا يتعدى مجرد تسميع للمحفوظ من فقهاء المذاهب).
وأما عقلاً، فالمفهوم النجدي لكفاءة النسب متناقض تناقض الليل والنهار، ومختلف كاختلاف الملائكة والأبالسة. فلا بأس للرجل عندنا أن يتزوج الأمريكية والألمانية والروسية وقد تكون مجهولة النسب عديمة الشرف قبل زواجها، ولكنه يترفع عن قومه الذين عاش معهم وقد عرف مروءاتهم وأفضالهم وشهاماتهم وأيامهم ومواقفهم المشهودة، لدعوى جاهلية لا يعرف أحد أصلها وسببها. وحتى قديما، فتراهم يتزوجون الجواري، ثم ينادون بتكافؤ النسب، ويعدون هذا من الشرع والعقل!
وأما مروءة، فكيف يرضى مجتمع متحضر بهذا وفيه ما فيه من قدح لسادة كرام وأكابر قوم وعلماء، كانوا وما زالوا أصحاب فضل وأهل نخوة ومروءات، وكم لهم من أيد بيضاء على مجتمعاتهم ونجدات تتحدث بها الأجيال ويشهد لها الليل والنهار. فكيف بالله يرضى مجتمع صحيح الفطرة سليم الطوية حي الضمير فيه بقية من الوفاء والحياء «يزعم الأفضلية على غيره» بهذا؟
الأعراف والتقاليد الفاسدة المتأصلة، يُحرف الدين والفطرة والعقل من أجل المحافظة عليها، ولا تتغير إلا باجتماع أهل الحل والعقد والمثقفين والكتاب والصحافة على توعية المجتمع والدعوة إلى نبذ جاهلية نجد والإلحاح في ذلك. فلعل بعد ذلك أن يصحو الخطاب الديني ويشارك في هذا. فمواقف الخطاب الديني هنا إما سلبية أو مسعرة لهذه الجاهلية. والعجيب أنك تراهم يتباكون ويدافعون عن زواج الصغيرة لحديث عائشة رضي الله عنها ويصمتون عن عشرات الأدلة من القرآن والسنة في تقبيح المفهوم النجدي لكفاءة النسب. والمسكوت عنه أن الإعراض عن الكتاب والسنة وعن صريح الأدلة وقلب المنطق وتجاهل العقل هو ديدن الفقهاء منذ عشرات القرون إذا ما تعارضت العادة مع العبادة، فلا يستطيع الشرع الوقوف امام العادات الفاسدة بل كثيرا ما تراه يتحورحتى يصبح مؤيدا وناصرا لها. ولو تأملنا في حالنا لوجدناه كحال غيرنا، فشرعنا وديننا يختصره قوله جل شأنه: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} (23) سورة الزخرف.
د. حمزة بن محمد السالم