د. فايز بن عبد الله الشهري
ترى متى نعترف أن مشكلتنا الرئيسة في مجتمعات الخليج ربما تكمن في هيمنة الاعتقاد (الذي صدقناه وروّجه بعضنا طويلا) بأننا مجتمعات مختارة من الصفوة العرقية النقية، وأننا نختلف عن المجتمعات (المنحرفة!) في الغرب والشرق الذين تحللوا من القيم كما نردّد دائما معتقدين - بلا برنامج عمل- أن شبابنا محصنون من الجريمة والانحراف، وأننا مجتمعات فاضلة نتمتع "بخصوصية" فريدة تصمد أمام كل موجات الفتن؟.
والمصيبة أن مثل هذا الاعتقاد لم يكن سائدا في دوائر المجتمع (التقليدية) فقط بل كانت نبرته أعلى وأكثر حرفية من خلال وسائل الإعلام والمنابر التي زايدت على هذا الادعاء مرسّخة فينا عقدة التميز، مكتفين بالتبرير وأن كل مشاكلنا "وافدة" وان كل مظاهر عدم الانضباط في المجتمع ما هي إلا "واردات" العمالة المنزلية وغيرها. على مثل هذه النغمات كنا نستريح ولا نحلّل المشكلات ولا نستعد لغد لا نملك تغيير قواعده مكتفين برفع شعار "كل شيء تمام" ومتظللين واثقين بعبارة "الحمد لله حنا أحسن من غيرنا".
ما الذي حصل لنا بعد ذلك؟ الذي حصل أننا اثر انتشار تقنيات الاتصال الحديثة وجدنا امراً آخرا فحين بات الشعب (الشاب) الخليجي كغيره من شعوب الأرض متصلا برغبته وناشرا حرّا بلا رقابة عبر الانترنت والفضائيات والبلوتوث ، ظهر وكأن ماردا انفلت من قمقمه، إذ حين ارتفع الستار وجدنا شبابنا يتبادلون الأدوار في مسرح تراجيدي عبثي لا نعرف لغته ولا من ألف فصول مسرحيته ولا مخرجها ولا حتى غايتها، والأغرب أن الأحداث كلها تدور أمامنا وكأنها تتحدث عن مجتمع لم نعشه ونكّون تفاصيله ونشأته. ولعلّ من ابرز ملامح الانكشاف الالكتروني ظهور العديد من الحقائق المؤسفة التي تشي بكثير من أعراض الانحراف السلوكي والفكري عند الشباب والكبار. هذا الوجه المخفي المخيف الذي أظهرته التقنية انكشف بكل وضوح عن صورة المجتمع الخليجي المغلق الذي لم تعد الخطب العصماء وعبارة التخدير كافية لإقناع المجادلين بأن نسبة مهمة من شباب الخليج - نتيجة لأخطاء الماضي- باتوا اليوم حطبا سريع الاشتعال وسط نيران الفتن والمظاهر الشاذة في السلوك والفكر.
ليس صحيحا - نظريا على الأقل- كل ما يقال عن مظاهر الانحلال في الغرب فالانحلال (كما نراه ونسميه نحن) يصنّفه المجتمع الغربي ويؤطره تحت قبة قيم الحرية الفردية المكفولة للجميع من خلال تنظيمات ودساتير يطبقونها. الفرق بيننا وبينهم أن هذه المجتمعات تؤمن بالانحلال (كقيمة تحت مفهوم الحرية) وتشرعنه وتضع له التنظيمات، فالشباب في المجتمعات الغربية - على سبيل المثال- يشاهد على الشاشات مظاهر التعري والحرية الجنسية وهي في ذات الوقت صور مقرّبة لواقع معاش ترى الفتاة والشاب الغربي مظاهره في البيت والحي السكني والجامعة.
أما نحن ففي حين أننا نرفض هذه السلوكيات (نظريا على الأقل) إلا أنها تُمارس باسمنا (عمليا) عبر الشاشات الفضائية وشبكة الانترنت ومنها انتقلت إلى الحي والبيت والمدرسة وتبعا لذلك تقافزت أرقام الإحصائيات المؤلمة. ولو تأملت ما تبثه الفضائيات (الخليجية) من صور "فيديو كليب" العشق والهيام لعجبت كيف أن كل حب (عفيف!) لا يبدأ ولا ينتهي إلا على سرير نوم جارية فضائية تتلوى أمام الكاميرا ببلاهة وقد نزعت (ثلثي) ملابسها الداخلية (وكل حيائها)، ولو تجوّلت مع (الصغار) في منتديات الجنس وغرف (البال توك) الخليجية لعرفت أن قوانين منع إنشاء الكباريهات ونوادي التعري ليست إلا حبرا على ورق، ولو تسمعت لمجالس (الكبار) و حديثهم عن "المرجلة"، ثم دسست انفك معهم في منتدياتهم الالكترونية لوجدت أن المرجلة (سوالف مجالس). هل يمكن أن نمنح أنفسنا بعض الهدوء فلربما حان وقت العقلاء ليقولوا كلمتهم ولعلهم يضعون شعار العمل: (كفى تخديرا: فلسنا أحسن من غيرنا).
مسارات
قال لمن عابه على تسامحه ومضى: لو لم يكن التسامح من ابرز عيوبي لما بقيت (أنت) في قائمة الأصحاب.