أين يقف الإسلام من القانون الدولي العام؟.هل يفترض بنا نحن المسلمين بلورة قانون دولي إسلامي؟ أم يجب علينا السعي لإيصال المفاهيم الإسلامية لتأخذ طريقها إلى القانون الدولي القائم، ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً؟
هل يكتفي المسلمون بالتعبير الرمزي عن القانون الدولي الإسلامي، متمثلاً في منظمة العالم الإسلامي، ذات التفاعلات المحدودة، والمقيدة بحكم الأمر الواقع؟
بالطبع لا يبدو ذلك خياراً نهائياً، وليس هو غاية الطموح
على نحو أولي، يُمكن تعريف القانون الدولي بأنه مجموعة القواعد التي تحكم حياة المجتمع الدولي أي تلك التي تنظم السلوك الثنائي والمتعدد داخل هذا المجتمع، بوحداته المختلفة، دولاً ومنظمات.
ويقاس نجاح القانون الدولي بمدى قدرته على تحقيق الأهداف المرجوة منه، كأداة لتطوير العلاقات والتفاعلات السائدة، وكضمانة للسلم والأمن الدوليين.
وبتعبير آخر، يمكننا القول إن نجاح القانون الدولي رهن بشعور الدول والمنظمات المختلفة، أو الغالبية الساحقة منها، بأنه يحقق أهدافها المشروعة في التطوّر والشعور بالأمن.
والقانون الدولي بمثابة كائن حي، يتأثر بالبيئة السائدة، ومستوى التغيّر في ظروفها ومعطياتها. وهو معنيّ بالتكيّف معها. ويشير ذلك إلى ضرورة تطوير القواعد الحاكمة والمؤسسة لهذا القانون.
وبعد انتهاء الحرب الباردة، وسقوط الثنائية القطبية، في مطلع العقد التاسع من القرن العشرين، جرى الحديث على نحو متواتر، ومن مواقع منهجية وفكرية مختلفة، عن ضرورة تطوير القانون الدولي لينسجم مع البيئة الجديدة، المتحوّلة أمنياً واستراتيجياً وقيميّاً والتي تم تعريفها بالنظام الدولي الجديد، على نحو مجمل أو مبدئي.
وعلى الصعيد الرسمي، دار النقاش حول إصلاح مؤسسات النظام الدولي، وفي مقدمتها الأمم المتحدة، وخاصة مجلس الأمن، ليعكس الواقع الجديد على نحو أمين.
وبعد عقدين من السجال حول ما يجب اعتماده على الصعيدين النظري والإجرائي، لم يتغير شيء في البنية القانونية والمؤسساتية للنظام الدولي. أو لنقل لم يطرأ عليها تحوّل جوهري.
بالطبع، ثمة مفاهيم جديدة أخذت طريقها للقانون الدولي، بفعل الأمر الواقع، خاصة تلك المرتبطة بسيادة الدولة، والأمن الإنساني، وحفظ السلام.
كذلك، شهد النظام الاقتصادي والتجاري الدولي نوعاً من إعادة التعريف، فرضته الثورة المعلوماتية، ومسيرة التطوّر التكنولوجي عامة.
وبالعودة إلى الأسئلة التي طرحت في مستهل هذا المقال، حول موقع الإسلام من القانون الدولي العام، يُمكن للباحثين الوقوف على كم وافر وغني من الجهود النظرية التي عنيت بهذا الموضوع، والتي بذلها على مدى المائة عام الماضية مفكرون إسلاميون كبار، ونخبة طليعية متنورة.
بل إن بدايات مضيئة على هذا الطريق تبلورت مبكراً في تراثنا الإسلامي، كما هو الأمر مع كتاب "السير الكبير" للإمام محمد بن الحسن الشيباني( 132– 189 ه) ، وكتاب "تاريخ الطبري"، للإمام محمد بن جرير الطبري (224 – 310 ه).
وبطبيعة الحال، لسنا بحاجة إلى كثير عناء للتوضيح بأن القرآن الكريم قد جاء بكافة المفاهيم والقواعد التي تؤسس لقانون دولي عام. بل لا يجوز لأحد التشكيك في هذا الأمر بحال من الأحوال.
إن فلسفة القانون الدولي العام تستند مركزياً إلى قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). ( الحجرات - 13). وقوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ).( المائدة - 2).
كما تستند فلسفة الأمن الجماعي الدولي إلى قوله عز وجل:(مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا).(المائدة - 32).
ومنذ عقود، بلوَر بحاثة ومفكرون إسلاميون ما اصطلح عليه بالقانون الدولي الإسلامي. ويشير هذا المصطلح إلى القواعد التي تنظم العلاقة بين أقطار العالم الإسلامي، كما بينها وبين بقية دول العالم.
وفي السياق ذاته، بلور المفكرون الإسلاميون ما جرى وصفه بالسلام الإسلامي، الذي عني بإحلال الأمن والسلم استناداً إلى مبادئ الإسلام وتعاليمه السمحة. ويؤشر المصطلح إلى تجربة الحكم الإسلامي، إنْ في فجر الإسلام المجيد، أو في التجربة الأوسع؛ حيث دامت الدولة الإسلامية الكبرى تسعمائة عام، سادت خلالها قيم الإسلام الحنيف على رقعة شاسعة من المعمورة.
وأياً يكن الأمر، فثمة اجتهادات كثيرة اليوم حول السبيل الأمثل لطرح وتطبيق القانون الدولي الإسلامي العام. وما إذا كان ذلك ممكناً في الأصل، في ضوء الظروف القائمة.
هذه القضية لا يمكن، بحال من الأحوال، حسمها من خلال وجهة نظر منفردة، مهما بدت وجيهة وراجحة. والأمر متروك لمزيد من المقاربات الهادئة والرصينة، التي يجب أن تستمر على مستوى الباحثين والمفكرين الإسلاميين.
وعلى الرغم من ذلك، يُمكن القول إن مصلحتنا كأمة إسلامية تقتضي الخروج مما هو خاص إلى ما هو عام. سيما وأننا في بيئة دولية شديدة التداخل. فضلاً عن أن البناء الجيوسياسي لعالمنا الإسلامي يتكون من أقاليم متباعدة، تتوسطها دول غير إسلامية، فرضت معطيات الجغرافيا والتاريخ الدخول معها في هياكل وتنظيمات دولية فرعية، كرابطة دول جنوب شرق آسيا ( الآسيان)، ورابطة دول جنوب آسيا ( سارك)، والاتحاد الأفريقي. وبعض هذه التنظيمات أثبت فاعليته في تطوير التعاون الإقليمي وحماية الأمن المشترك.
وقد يقول قائل إن هذه التنظيمات الفرعية لا يجوز أن تتقدم على مبدأ تطبيق القانون الدولي الإسلامي العام. وهذا صحيح في سياق المقاربة الأيديولوجية. بيد أن الصحيح أيضاً هو أن القانون الدولي ليس هدفاً بحد ذاته، بل وسيلة لتحقيق مصالح الشعوب وصيانة أمنها. كما الأمن الجماعي الدولي عامة. وما دام الأمر على هذا النحو، فإن المصلحة تقتضي بالضرورة المحافظة على المكتسبات المتحققة عبر التنظيمات الإقليمية.
ماذا يعني كل ذلك؟.
هل يكتفي المسلمون بالتعبير الرمزي عن القانون الدولي الإسلامي، متمثلاً في منظمة العالم الإسلامي، ذات التفاعلات المحدودة، والمقيدة بحكم الأمر الواقع؟
بالطبع لا يبدو ذلك خياراً نهائياً، وليس هو غاية الطموح.
ما الذي يمكن عمله إذاً؟.
إن لدينا قاعدة متينة ومتماسكة من المبادئ الإسلامية المنظمة للعلاقات البشرية:بين الجماعات والملل، والدول والأقوام.وهذه المبادئ مدونة بصيغ وأشكال قانونية مختلفة، ومكتوبة بعدة لغات محلية ودولية. وبعضها مشفوع بدراسات مقارنة.
ليس علينا اليوم سوى إخراج هذه الذخائر الفكرية النفيسة من حيز التناول الخاص إلى حيث مراكز التأثير في العالم، ووضعها بين يدي منظّري وباحثي القانون الدولي على صعيد عالمي.
وفي خطوة تالية، تجري الدعوة لاعتماد هذه المبادئ في القانون الدولي العام، عبر قنوات الأمم المتحدة.
وبالطبع، لن تستطيع الدول الإسلامية الوصول إلى كل ما تريده على هذا الصعيد. وقد لا تحقق سوى الشيء القليل.
وعلى الرغم من ذلك، على هذه الدول السير في هذا الطريق بكثير من العزم، فهذه مهمة طويلة الأمد، يمكن للمسلمين أن يحققوا فيها نجاحات مرحلية متتابعة، وتكون نتيجتها محصلة تراكمية لكافة المحاولات والجهود.
إن هذا الخيار تمليه النظرة الواقعية للبيئة الدولية الراهنة، وموقعنا فيها نحن المسلمين. كما ينسجم هذا الخيار مع فلسفة الإسلام كدين جعله الله تعالى للناس كافة. وحيث بُعث النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) رحمة للعالمين.
إن سعي المسلمين في هذا الاتجاه يُمثل شكلاً من أشكال الدعوة إلى الخير الذي يعم البشرية، ويحفظ الأمن والسلم الدوليين..