هو تعبير يكاد يقع على جميع الآذان وتتغنى به جميع الألسن، فهو من الأشياء القليلة النادرة، التي اجتمع الناس على الاتفاق عليها. ومع ذلك، رغم هذا الاتفاق الظاهر على خيرية (الوسط)، هو لم ينج من أن يكون واحدا من تلك الأمور الكثيرة التي عجز الناس عن الاتفاق على تعريفها وتحديدها، فوقعوا في الاختلاف حولها وهم يظنون أنهم متفقون.
في هذه الأيام التي يصارع فيها الناس أفكار التطرف المخلة بالاعتدال، أو (الوسط)، ينشط المصلحون، في الدعوة إلى اتباع الوسطية والتمسك بها ونبذ التشدد والمغالاة، التي هي صورة من صور التطرف الموقع في الضلال والابتعاد عن الحق والصواب. إلا أنه على الرغم من تلك الدعوات الكثيرة والمخلصة في الحث على الالتزام بالوسطية وتبيان ما فيها من خير وإصلاح لأوضاع كثيرة سيئة في المجتمع، نجد الناس ما زالوا منغمسين في التطرف يعانون من المغالاة في الأفكار، التي تظهر في صور شتى من السلوك، يحدث ذلك، ليس كرما منهم للوسطية أو عدم إيمان بفضيلتها، وإنما لاختلافهم في فهم حقيقتها، وعدم تمييز منهم بين ما هو وسط وما هو تطرف.
ما يحدث غالبا بين الناس، هو أن كلا منهم يلبس الوسطية الرداء الذي يريد فيراها من خلال منظاره هو، يراها متمثلة فيما يتبعه من منهج، أو ما يقتدي به من مذهب، أو ما يمارسه من قول أو فعل، فلا أحد يقول عن مسلكه أنه مغال، أو بعيد عن الاعتدال، أو متطرف ناء عن الحق، فالجميع يرون في أنفسهم الاعتدال والتوسط، بل إنه قد لايكون نادرا أن نجد من يزعم أنه وسطي، وفي الوقت نفسه يرفع شعار الرأي الواحد، والمنهجية البحثية الواحدة، بل حتى الإصرار على إلزام الآخرين بما يرى والحكم عليهم انطلاقا من ذلك.
هنا تظهر الإشكالية، إشكالية (الوسط الذي هو خير الأمور)! كيف يمكن لنا أن نحدد مفهوم هذا الوسط المحمود الذي نتغنى به؟ ما هي صورته؟ وما حدوده؟ إن الدعوة إلى اتباع الوسطية مع ترك تقديرها لرأي الناس، هي كمن يدعو إلى نقل الماء بمنخل ، لن يحقق مبتغاه مهما طال به الزمن. فالناس في حاجة إلى من يعرض أمامهم صورة واضحة المعالم للوسطية المطلوب منهم اتباعها، فيحدد المعايير ويرسم الحدود ويضع النقاط على الحروف، لتقرأ المعاني كما هي في أصلها، فلا ضلال في الفهم ولا ميل في التفسير.
قد يقول البعض إن المعايير واضحة في اتباع ما جاء به الشرع وأن علينا أن نعرض جميع ما يشكل علينا من الأمور على الشرع، كي نتبين من خلاله ما يهدينا إلى الصواب فنعمل وفق ما يقول. لكن هذا القول إن صلح على المستوى النظري هو غير صالح على مستوى التطبيق، ففهم ما جاء في الشرع يتفاوت بين الناس، وما يراه البعض وسطيا معتدلا ممثلا لما يقول به الشرع قد يراه البعض الآخر مضيعا للدين أو مخالفا للأفضل.
ترك الاحتكام إلى الشرع مطلقا بين الناس ليهتدوا به إلى معرفة الوسط الذي هو الغاية، هو أمر لايأتي بالنتيجة المطلوبة ولا يعين على بلوغ الغاية. فنحن في حاجة إلى تحديد معايير واضحة جلية للوسطية متفق عليها ليعرف الناس في ضوئها مواصفات السلوك الوسطي وما ينافيه،وما لم نفعل ذلك، فإننا سنبقى على مانحن عليه، كل منا يغني على وسطيته.