ليست هناك قضية تهم المجتمع بمستوى أهمية السلم الاجتماعي, فعندما يخسر المجتمع أمنه وسلامه فإنه لا تبقى له حرمة إلا وتنتهك، ولا مقدسات إلا وتدنس، ولا قيم إلا وتداس، ولا إنسانية إلا تطمس في النفوس. فالمجتمع بلا سلم اجتماعي هو مجتمع مفكك ومنهار، وهو عرضة للاختراق والعبث بمقدراته والتعدي على موارده. وعندما يخسر المجتمع نعمة الأمن والسلام فإنه قد يدخل في دائرة شيطانية من الفوضى والعنف ربما لا يمتلك هو نفسه قرار نهايتها ولا يحوز القدرة على ضبطها أو السيطرة عليها. ويكفينا أن ننظر إلى من حولنا لنشكر الله على هذه النعمة نعمة السلام, فكم من مجتمع آمن قد انزلق في فوضى ثم تبع الفوضى صراعات وحروب أهلية أكلت الأخضر واليابس، وصار الناس يقتل بعضهم بعضا ويخربون مدنهم ويطيحون بكل مكتسبات دولهم ومجتمعاتهم وما بناه ممن سبقهم.
وليس هناك أخطر على السلم الاجتماعي من الثقافة, فالثقافة بخطابها تستطيع أن تحمي المجتمع وتصون له أمنه وسلامه، وبمقدورها أيضا أن تأخذ بالمجتمع إلى مناخات التوتر والاستقطاب الحاد الذي يجعل من النفوس تعيش الكراهية بعضها مع بعض، وهذه الكراهية الاجتماعية هي التي تفتح كل أبواب الشر على المجتمع. فإذا كان العرب في السابق يقولون إن الحرب أولها كلام فإن أخطر الكلام هو ما نعني به اليوم الخطاب الثقافي. فإذا كان المجتمع هو ليس من الممتلكات الخاصة، وبالتالي فليس من حق أحد أن يجعل من الخطاب الثقافي خطابا أحاديا, خطابا يريد به أن يلغي كل المشتركات التي قامت عليها وحدة المجتمع ويستبدلها بأفكاره ومقولاته, خطابا يريد به أن يختزل المجتمع في نفسه, خطابا يريد به أن يجعل من اجتهاداته هي المرجعية التي يصنف بها الناس وهي المقياس التي يرفع بها أناس ويحط ويكفر ويسقط بها أناس آخرون، ويريدها أن تكون الميزان الذي يحدد بها استقامة الناس على الحق, فالحق عنده هو ما يراه هو ويقول به، والباطل هو ما يأخذ به الآخرون, إنه خطاب إقصائي لا يرى لأحد الحق في التفكير والاجتهاد, فهو يحصر هذا الحق لنفسه وقد يصل به الأمر إلى أن يسلب حق الحياة ممن لا يرون له هذا الحق.
وعندما أشار خادم الحرمين الشريفين إلى وجوب ترك كل الخطابات والمقولات التي تصنف الناس تحت مسميات قد يراد بها الانتقاص من وطنيتهم أو المساس بانتماءاتهم الدينية والوطنية فإنه أراد بحكمته أن يجنبنا طريقا وإن بدا للبعض على أنه من باب النصرة لما قد يحمله من أفكار وقناعات، إلا أنه طريق قد ينتهي بنا كمجتمع إلى التفكك، وهذا ما يجب الحذر منه بكل الوسائل وبشتى الطرق. وعندما يجتمع الحوار الوطني ويلتئم لمناقشة واقع الخطاب الثقافي السعودي فإنها محاولة جيدة للتأكيد مرة أخرى أن الخطاب الثقافي هو مهمة وطنية، وعلى المجتمع بكل فئاته المتنوعة وبكل أطيافه المتعددة أن يصيغ خطابا ثقافيا يحفظ للمجتمع وحدته ويتيح للجهود أن تتكامل مع بعضها, خطاب لا يجعل من الاختلاف مبررا للخلاف وألا يكون الاجتهاد الشخصي أو الفئوي مشرعا لنفي وإقصاء الآخرين أو التعدي على حقوقهم كمواطنين. فإذا كان السلم الاجتماعي هو قضية على هذا المستوى من الأهمية للمجتمع وإذا كان الخطاب الثقافي له هذا الدور الكبير والمؤثر في حفظ السلم الاجتماعي، فبالتالي من حق المجتمع على ثقافته وعلى مثقفيه أن يقدموا له خطابا يؤسس على قيم وقناعات تجمع المجتمع على مشتركاته وهمومه وتطلعاته, خطاب يشعر الجميع بأنه لا ينحاز إلى أحد ولا يستثني أحدا.
وفي هذا الإطار وبحديث موجز يمكننا أن نشير إلى البعض من القيم التي يجب أن ينطلق في إطارها خطابنا الثقافي, إنها قيم تجعلنا أكثر وعيا وإدراكا بالكيفية التي تحفظ لنا سلامة مجتمعنا وتجعلنا أكثر قوة من أن يصيبنا ما أصاب المجتمعات الأخرى من تفكك وانهيار، وتجعلنا أكثر مناعة في وجه كل المحاولات التي قد يسعى بها الآخرون لاختراقنا والعبث بمكتسباتنا. إنها قيم إن فعلناها في خطابنا الثقافي تجعلنا أكثر قدرة على عزل كل الأصوات التي تريد زعزعة مجتمعنا وتمزيق كل الأقنعة التي قد يتوارى خلفها من يريد الشر ببلدنا ومجتمعنا.
1- التنوع الاجتماعي: إن المجتمع هو بيئة إنسانية والبيئة الإنسانية كما هي البيئة الطبيعية لا تكون بيئة حقيقية إلا بما تحويه من تنوع وتعدد في مكوناتها. فالتنوع الاجتماعي، وهو سمة المجتمع الحي، هو الحالة الطبيعية، وإذا أراد أحد أن يسلب من المجتمع تنوعه فإنه كمن يريد أن ينتزع الروح من الإنسان, والجسد عندما تنتزع منه الروح فهو جسد متعفن ورائحته كريهة وهو موطن للجراثيم والحشرات. فالتنوع الاجتماعي هو قيمة كبرى، وعلى الثقافة أن تعزز من هذه القيمة وتعطيها الأولوية في خطابها. وقد يعتقد البعض أن عدم انسجامه أو عدم ارتياحه النفسي مع بعض الفئات في مجتمعه يعطيه الحق في التهجم عليها والمس بكرامتها والتشكيك في انتمائها الوطني والاجتماعي، وهو في الحقيقة يعبر عن ثقافة أحادية الرؤية وحادة التعامل، وهذا النوع من الثقافة يشكل خطرا على أمن المجتمع وسلامته. فغياب هذه القيمة الكبرى في فكر وثقافة الإنسان يشكل انهيارا للمناعة الثقافية لهذا الإنسان، وقد يتحول هذا الإنسان المريض ثقافيا من إسقاط الآخر إلى إقصائه ومن ممارسة العنف الفكري إلى ممارسة العنف البدني.
2- إن حالة التنازع في المجتمع هو أمر طبيعي بل هو أمر مطلوب في الكثير من الأحيان بشرط أن يرشد هذا النزاع وأن يوجه الوجهة الخيرة التي تصب لصالح المجتمع كله. وهنا تلعب الثقافة في خطابها دورا مهما في توظيف هذه الرغبة الفطرية في التنازع لما يعود بالخير على المجتمع. هناك صور متعددة من حالات التنازع في المجتمع ولا نريد من الخطاب الثقافي أن ينكر وجود مثل هذا التنازع، لأن مثل هذا الإنكار معناه ترك الأمور لأن تتحرك بعشوائية وبدوافع واجتهادات شخصية أو مصلحية, ويجب على الخطاب الثقافي ألا يسمح لنفسه من أن يمتطيه أناس ومجموعات توجه هذا الخطاب لتنفخ وتؤجج هذه التنازعات لتتحول إلى صراع اجتماعي يفكك المجتمع ويشتت قدراته وطاقاته. ولكن المطلوب هو أن يمارس الخطاب الثقافي دوره في ترشيد هذا التنازع في المجتمع وعدم جعله مبررا لعدم التلاقي والتواصل, فمهما كان حجم هذا التنازع إلا أنه من المستحيل أن يستوعب المجتمع كله إلا إذا كان للخطاب الثقافي دور سلبي ومخرب وعندها قد يتحول هذا المجتمع الذي هو ضحية ثقافته إلى مجتمع مصدر للصراع وعدم الاستقرار إلى المجتمعات الأخرى. فالمجتمع الذي يفشل في إدارة خلافاته وتنازعه الاجتماعي يتحول إلى مصدر خطر على المجتمعات الأخرى.
3- في كل مجتمع هناك ما يجمع ويعزز من وحدة المجتمع وهناك ما يفرق ويفكك من عرى المجتمع, وهناك مشتركات وهناك خصوصيات، وعلى الخطاب الثقافي أن ينطلق من المشترك ومما يجمع، وهذا هو الذي يحفظ وحدته وسلامته. أما إذا انشغل الخطاب الثقافي بشكل مباشر أو غير مباشر في اختصار المجتمع في فئات أو مجموعات معينة وأثر عدم التفات إلى الآخرين مما يعطي الفرصة لهؤلاء الفئات فقط للتعبير عن أنفسهم, ويحرم الآخرين من هذا الحق فهذا الخطاب هو خطاب مضاد للسلم الاجتماعي لأنه خطاب يستثير الآخرين والمجموعات الأخرى المحرومة من التعبير عن نفسها, وهذا الحال قد ينتج لنا حالة اجتماعية ثقافية متواترة ومتأزمة تظهر فيها الفوارق وتختفي فيها الجوامع وتطغى عليها رغبة الدفاع عن النفس وتخبو فيها الرغبة للحوار والتواصل.
ليس من المبالغة أن نقول إن السلم الاجتماعي هو الرصيد المهم لأي مجتمع، ولكن هذا السلم والاستقرار الاجتماعي هو نعمة قد يفقدها المجتمع إن لم يكن هناك خطاب ثقافي يقدم للمجتمع القيم والأفكار التي تزيد من وعي المجتمع بهذه النعمة. فكل ما يحويه أي مجتمع من تنوع فكري أو مذهبي أو ثقافي أو جغرافي أو سكاني هو لخير المجتمع بشرط ألا يكون هناك خطاب ثقافي يوظف مثل هذا التنوع لغير صالح المجتمع. فالخطاب الثقافي الرشيد هو خير من يحفظ للمجتمع وحدته وسلامه وأمنه واستقراره.