محمد بن أحمد الرشيد
مما يثير العجب عندي أيضاً أن الغيرة على اللغة العربية هي غيرة قديمة انبرى لها شباب نشأوا في ظل أجواء غير عربية، واتفقت آراؤهم على أنه لا سبيل للنهضة إلا بإحياء الروح العربية، وشعور العرب بمجدهم ورفعتهم.
سيجمد عقلك إن لم تحرّكه، سينفد رصيدك الثقافي إن لم تزوده.. هناك من يملأون بطونهم بالطعام حتى التخمة، وهناك من يملأون عقولهم بالمعرفة والعلم، وواسع الاطلاع لكن بلا توقف، فالأول مضر بالصحة البدنية، والثاني معزز للصحة العقلية.
وكم هو محظوظ من يملأ وقته بالقراءة، ويمتع ناظريه بتصفح كتب العلم والثقافة.
** ** **
ما أسعد العطلات التي يقضي المرء معظم أوقاتها بين الكتب والكلمات، وقد سعدتُ في إجازتي الأخيرة بقراءة متعددة لكتب جميلة قديمة وحديثة.. كان منها كتاب بعنوان (الدكتور صلاح الدين القاسمي ١٣٠٥ه - ١٣٣٤ه آثاره.. صفحات من تاريخ النهضة العربية في أوائل القرن العشرين) قدم له وحققه محب الدين الخطيب - ونشر في العام ١٩٥٩م.
وكم هم هؤلاء العظماء في تاريخنا القديم والحديث من أبناء بلاد الشام أمثال صلاح الدين القاسمي، وعارف الدين الشهابي، وأمثالهما الآخرين من أقطار عربية أخرى الذين ملكتهم غيرة غير عادية في الانتماء القومي العربي إبان الحكم العثماني، ومن أجل هذا أسسوا جمعية النهضة العربية التي ترى أن أول وأهم خطوة لإصلاح التعليم في ذلك الحين أن يكون باللغة العربية لا بلغات أخرى.
** ** **
لقد شدني أن ينسب محب الدين الخطيب - محقق هذا الكتاب أحد أخطاء الدولة العثمانية إلى استعجام الدولة الرسمية - بمعنى أنها لم تستعمل اللغة العربية في شؤون حكمها؛ فكان ذلك من أسباب تقدم الغرب وتخلف المسلمين عن تحقيق القوة والمنعة، والغنى والسؤدد، وهو بلا شك محق في هذا، بل إنه يزيد على ذلك بالقول (إن العروبة أكرم عناصر الجامعة الإسلامية، وإن الله اختارها (العربية) لحمل أمانات الإسلام في عصره الأول لمزايا وخصائص فيها لا توجد في غيرها، ويؤمن مؤسسو جمعية النهضة العربية بأنها - العروبة والعربية - هي المسؤولة الآن - كما كانت المسؤولة في البداية - عن حمل رسالة الإسلام وتجديد شبابه، وأن أول ما أساء به المسلمون إلى أنفسهم قبل أكثر من ألف سنة كفهم يد العروبة عن إدارة دفة الإسلام ودولته وتوجيه تاريخه نحو أهدافه).
** ** **
ويقول المحقق (عاش صلاح الدين القاسمي عبقرياً سابقاً لسنه، منذ أمسكت أنامله القلم معبراً به عما في نفسه، إلى أن لقي الله في البلاد الحجازية عام ١٣٣٤ه قبيل قيام الدعوة فيها إلى تأسيس دولة عربية، ولم يكن قد بلغ الثلاثين من عمره).
** ** **
إن مجيء صلاح الدين القاسمي من دمشق إلى الحجاز كان عن حدس بما ستتمخص عنه الأيام من أحداث منتظرة، أراد هو أن يكون من شهودها، كما دلت على ذلك آخر قصيدة نظمها طويلة يستحث فيها العرب لتحمل المسؤولية في قيادة العالم الإسلامي الذين هم أهل لها.
** ** **
ومما يثير العجب عندي أيضاً أن الغيرة على اللغة العربية هي غيرة قديمة انبرى لها شباب نشأوا في ظل أجواء غير عربية، واتفقت آراؤهم على أنه لا سبيل للنهضة إلا بإحياء الروح العربية، وشعور العرب بمجدهم ورفعتهم.
يقول صلاح الدين في إحدى مقولاته البحثية (إن غاية التعليم هو إرشاد الأمة إلى ما فيه صلاحها وإصلاحها، ولا يتم لها ذلك إلا إذا توفرت لها الأسباب التي من شأنها أن تأخذ بناصية اللغة العربية، والعمل على إشاعتها فيما بين أبنائها جهد الطاقة، ليستتب لهم التفاهم بلغة سوف تعود إلى نُضرتها الأولى إذا أصلحت طريقة التعليم، وكان التعليم بالعربية بالغاً منتهاه من العناية كتابة وقراءة وحديثاً وإلقاء).
ويؤكد - في بحثه المستفيض - (أن العناية البالغة بلغة غير لغتنا العربية هو الذي سبب لنا هذا العجز الكبير في ميزان التقدم).
** ** **
ولقد رأيت - قبل قراءتي لهذا القول ما رآه - وكم ألححتُ في مقالاتي عن ضرورة أخذ اللغة العربية عاملاً لنهضتنا، وعودة لمجدنا؛ فبغيرها لن نحفظ حياتنا، وإن كنت أشجّع وأدعو إلى تعلم لغة أخرى فأكثر، مهارة وليس تعلماً بها.
** ** **
هذا.. وتأكيداً للاعتقاد بضرورة التعليم باللغة العربية، وحرصاً على أهمية تحقيق هذه الغاية النبيلة أن سارع بعض الغيورين في بلاد الشام - زمن الدولة العثمانية وسيطرة اللغة التركية على الحياة العامة - يجمعون الأموال من بعضهم ليفتحوا غرفاً للقراءة العربية، ويعيِّنوا لكل غرفة أميناً - أشبه بالمكتبات العامة - ويدفعوا الرواتب من جيوبهم، وكان هدفهم الأول هو تعريف العرب بأنفسهم - كما ورد في هذا الكتاب - وتعريفهم بتاريخهم، وبقوميتهم عن يقين صادق لديهم بسمو مكانة العرب ولغتهم المجيدة، ومن هنا فإن عالمنا المعاصر مطالب بألا يتوانى عن إحياء ما هو مضيء من ماضيهم وإعادة مجدهم، وسيادة لغتهم.. ذلك شرط أساسي لبلوغ النهضة، وتحقيق القوة والسيادة دون استعلاء.
** ** **
ولا تزال السياحة مستمرة.. فإلى لقاء آخر بإذن الله تعالى.
** ** **
وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها، اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمدّنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد..