لقد أمر الله تعالى بأداء الشهادة على وجهها، ومدح مؤدّيها وأثنى عليه، وحذّر من كتمانها، فقال تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة:282]. وقال: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة:283]. قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره عند قوله: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة:282]، قيل معناه إذا دعوا إلى التحمّل فعليهم الإجابة، وهو قول قتادة والربيع عن أنس، وهذا كقوله: {وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ} [البقرة:282]. ومن هنا استفيد أن تحمّل الشهادة فرض كفاية، وقيل مذهب الجمهور، والمراد بقوله: {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ} [البقرة:282] للأداء لحقيقة قوله الشهداء، والشاهد حقيقة فيمن تحمّل، فإذا دُعِي لأدائها فعليه الإجابة إذا تعيّنت وإلا فهو فرض كفاية، والله أعلم. وقال رحمه الله عند قوله: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ} [البقرة:283] أي: لا تخفوها وتغلوها، ولا تظهروها، قال ابن عباس وغيره: "شهادة الزور من أكبر الكبائر وكتمانها كذلك" ا.هـ. وقال تعالى مادحاً مؤدّيها ومجازياً له: {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج:33-35]. وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا * أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:72-76]. لما كانت الشهادة عظيمة وجزاؤها عظيم، حذّر الشرع من شهادة الزور وهي الشهادة بالكذب ليتوصّل بها إلى الباطل من إتلاف نفس أو أخذ مال أو تحليل حرام أو تحريم حلال، ذكر ذلك ابن حجر في الفتح 5/ 426 عن القرطبي. قال الله تعالى محذّراً من شهادة الزور: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30]. وعن أيمن بن خُزيم الأسدي رحمه الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم قام خطيباً فقال: «أيها الناس عدَلَت شهادة الزور إشراكاً بالله، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30]» [رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه]. ويشهد له حديث أبي بكرة وحديث أنس، فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً؟ قالوا: بلى يا رسول قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وجلس وكان متكئاً فقال: ألا وقول الزور، قال فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت» [رواه البخاري ومسلم]. وعن أنس رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكبائر فقال: «الإشراك بالله، وعقوق الوالدين وقتل النفس وشهادة الزور» [رواه البخاري ومسلم]. وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه». وعن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته»، قال إبراهيم: "وكانوا يضربوننا على الشهادة والعهد" [رواه البخاري ومسلم]. فشهادة الزور من أكبر الكبائر وأعظم الجرائم. قال الإمام الذهبي في كتاب الكبائر (79): إن شاهد الزّور قد ارتكب عظائم: أحدها: الكذب والافتراء. ثانيها: أنه ظلم الذي شهد عليه حتى أخذ بشهادته ماله وعرضه وروحه أحياناً. ثالثها: أنه ظلم الذي شهد له بأن ساق إليه المال الحرام فأخذه بشهادته فوجبت له النار، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: «ومن قضيت له من مال أخيه بغير حق فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار». رابعها: أنه أباح ما حرّم الله تعالى وعصمه من المال والدم والعرض" ا. هـ. وقال الشيخ الميدانّي: "وفي حياة الناس نوع خطير من الكذب، شديد القبح، سيئ الأثر ألا وهو شهادة الزور. إن الأصل في الشهادة أن تكون سنداً لجانب الحق، ومعينة للقضاء على إقامة العدل، والحكم على الجناة الذين تنحرف بهم أهواؤهم وشهواتهم فيظلمون أو يبغون، أو يأكلون أموال الناس بالباطل، فإذا تحوّلت الشهادة للباطل، ومضلّلةٌ للقضاء، حتى يحكم بغير الحق استناداً إلى ما تضمنته من إثبات، فإنها تحمل حينئذ إثم جريمتين كبرتين في آن واحد. الجريمة الأولى: عدم تأديتها وظيفتها الطبيعة الأولى. الجريمة الثانية: قيامها بجريمة تُهضم فيها الحقوق، ويُظلم فيها البُرآء، ويُستعان بها على الإثم والبغي والعدوان"(1). فشهادة الزور مضارها جسيمة ومن مضارها: أولاً: سبب لسخط الجبّار ودخول النار. ثانياً: فيها ضياع حقوق الناس وظلمهم. ثالثاً: تطمس معالم العدل والإنصاف. رابعاً: تعين الظالم على ظلمه، وتعطي الحق لغير مستحقه. خامساً: تفويض لأركان الأمن وزعزعة الاستقرار. سادساً: سبب لزرع الأحقاد والضغائن في القلوب. سابعاً: فساد اجتماعي يعصف بالمجتمع ويدمّره(2). وتغليظاً لأمر الشهادة جعل العلماء لها شرائط قال الإمام البغوي رحمه الله تعالى في شرح السنة 10/ 124: "شرائط قبول الشهادة سبعة: الإسلام، والحريّة، والعقل، والبلوغ، والعدالة، والمروءة، وانتفاء التهمة، فلو شهد ذمي على شيء لا تقبل شهادته عند كثير من أهل العلم على الإطلاق، وهو قول مالك، والشافعي، وقال الشافعي: المعروفون بالكذب من المسلمين لا تجوز شهادتهم، فكيف تجوز شهادة الكفار مع كذبهم على الله عز وجل" انتهى. فالناس مع الشهادة على ثلاثة أصناف: الصنف الأول: مؤديها وإذا دعي إليها أجاب وهم قلة قليلة وهؤلاء هم أصحاب العزائم ويعملون لإحقاق الحق وإبطال الباطل استجابة لأمر الله ورغبة في ثواب الله وفضله. الصنف الثاني: يكتمها ولا يستجيب إذا دُعي إليها وهم كثر وذلك لثلاثة أسباب أولها: الجهل بالأمر بها وبفضلها والإثم المترتَّب على كتمانها. ثانيها: الخوف على ما يترتب عليها ولو كان يترتب على ذلك إهدار دم وإبطال حق. ثالثها: تجنبها بسبب ما يترتب على بذلها من وقت نتيجة للروتين الممل في التعامل مع القضايا وخاصة حضور الشهود ومع ذلك لا يكون هذا عذراً في مقابل ما يترتب على تركها. الصنف الثالث: يبذلها زوراً وبهتاناً وهم لا يستهان بعددهم بل بعضهم جعل من الشهادة مصدراً للارتزاق. فالشهادة لا تتحقق إلا بالعلم، والعلم طريقه السمع والبصر أي فما كان حقه النظر فيكون بالبصر، وما كان حقه السمع فبالسمع. ومن أعظم صور شهادة الزور وقول الزور في الواقع: الصورة الأولى: ما يبثه الإعلام المستعبَد من قبل الأنظمة الفاسدة الظالمة بكل وسائله الإعلامية من تبجيل للفسدة والمجرمين والمحادّين لله ورسوله وتجميل صورهم ومقالهم وفعالهم أمام الرأي العام. الصورة الثانية: إخفاء الحقائق التي بسببها يهدر الحق العام أو الخاص سواء كان ذلك الحق مالاً أو عقاراً أو نفساً والله سبحانه يقول: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة:282]. الصورة الثالثة: منح الشهادات والتزكيات لغير مستحقيها. فالشهادات والتزكيات تنبني على علم مسبق، فإن كان لا يعلم فتلك شهادة زور، وإن كان يعلم أنه لا يستحقها فتلك شهادة زور وبهتان. الصورة الرابعة: التعاون على الإثم والعدوان لأنه تعاون على الباطل، والباطل في معاني الزور كما قال تعالى: {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} [الفرقان:4]، ومن ذلك الإعانة على إقامة المنكر وما هو باطل أو التهيأه له، ومنه تكثير سواد أهل الباطل، فقد مدح الله عباد الرحمن فقال: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72]. الصورة الخامس: الشهادة على الجور وهي الشهادة على الظلم وعدم العدل كالشهادة في حال عدم التسوية بين الأبناء، وخاصة إذا كانت من غير مسوّغ شرعي، كما في الحديث المتفق عليه حديث النعمان بن بشير أن أباه أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إني نحلت ابني هذا غلاماً فقال: أكل ولدك نحلت مثله؟ قال: لا قال: فأرجعه». وفي رواية أنه قال: «أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟ قال: بلى قال: فلا إذن». وفي رواية أنه قال: «أعطاني أبي عطية فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله قال: أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟ قال: لا، قال: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، قال: فرجع فرد عطيته». وفي رواية: أنه قال: «لا أشهد على جور»، وقال صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» [رواه مسلم]. الصورة السادسة: إعطاء الصوت في الانتخابات لمن لا يستحقه فالصوت في الانتخاب شهادة على صلاحية المنتخَب، وإعطاؤه لمن ليس أهل فيما صوّت عليه خيانة وزور، ولذلك ينبغي على المسلم في أي انتخاب أن يستوثق ممن سيعطي له صوته. وأما الانتخابات الرئاسية القريبة في الحادي والعشرين من فبراير، فهي تحصيل حاصل لأنها محسومة الاختيار لكونها توافقية، وأما نتيجتها فلعلها محسومة في المناطق الشمالية وأما المناطق الجنوبية فالذي يظهر الغالب المقاطعة لها وذلك لأن المبادرة الخليجية لم تعط القضية الجنوبية حقها من النظر والقرار كما أعطت بعض القضايا العالقة، وإنما هي في بند الوعود فلا ضير على من اختار المقاطعة من الجنوبيين، ولكن ينبغي أن تكون المواقف سلميّة دون إحداث قلاقل وصدامات ومواجهات مسلحة ومصادرة حق الاختيار فإن سلامة الناس وأمنهم ونزع فتيل الفتنة بينهم أولى وأوجب. وأما ما يحدث من اعتداءات على ساحات التغيير كما حدث مساء الخميس الماضي: 16/ 2/ 2012م ومن قبل في عدن، أو سد الطرقات أو الاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة فإن ذلك يناقض شعار التحرّك السلمي ويخرجه منه ويدخله في العنف الذي لا تُحمد عقباه. فينبغي على جميع القوى والمكونات السياسية والاجتماعية التداعي تحت مسمّى أي كيان معتبر للخروج بميثاق شرف وحلف عام يحفظ لحضرموت أمنها واستقرارها، ويردع كل من يسعى إلى تمزيق روابط المجتمع الحضرمي وإثارة الفتن فيه. وكان الأولى أن تُحسم تلك الانتخابات من قبل مجلس النواب كما حُسِمت بعض القضايا وتجنيب البلاد أي فتنة، ويُعطى للقضية الجنوبية حقها، فإن الجنوبيين لم يروا أشياء على الواقع تحققت لهم تلامس مطالبهم وتكون مكسباً لهم سوى تنصيب الرئيس ورئيس الوزراء عند من يراه مكسباً للجنوبيين. نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يقيم الشهادة على وجهها، ويجعلنا ندور مع الحق حيث دار، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. _______________________________ (1) الأخلاق الإسلامية (1/ 546). (2) انظر موسوعة نضر النعيم شهادة الزور (10/ 4780). المصدر: حملة السكينة