د. فهد بن عبدالرحمن السويدان
اليتامى في قلب المجتمع المسلم يمثلون نقطة مُضيئة بالحسنات، والأجور العاليات، من ربِّ الأرض والسموات، وذلك لمن نَظَرَ إلى الأمر بعين قلبه، وألقى سمعه إلى أمر الله - تعالى - وبيان رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وإحساسُهُ الإيمانيُّ حاضرٌ لا يغيب.
الأيتام هم رافدٌ من روافدِ السعادة في مجتمع المسلمين؛ لأنَّهم يملؤون فراغاً روحيّاً صادياً عند مَن أكرمه الله - تعالى - برقة القلب لهم، والحُنُوِّ الدائم عليهم، فهم من أسباب رقة القلوب الحاضرة، والنُّفوس الشاكرة، ويجمعون - مع ذلك - أرواحاً من شتاتها في بوتقة الإيمان؛ لصيانة سلامة المجتمع وحصاد الحسنات، تلك التي تأتلف على سَوْقِ الأفراح إلى القلوب التي يحتويها اليتم، فيتحول الأسى والحرمان إلى زهور من العطاء والإكرام، بعيداً عن الأحزان.
اليتيم من البشر: مَن فَقَدَ أباه وهو دون الحُلُم، ومن فَقَدَ أبويه فهو لطيم، واليتيم من الطير أو الوحش مَن فقد أُمَّه، وأما عن اليُتْمِ في اللغة، فله معانٍ قد تتعدد منها:
- الغفلة، وذلك ببيان حال اليتيم أنَّ كافله وراعيه يَموت حين يفقد والدَه نَبْعَ الحنان والرعاية، وغطاء الأسرة الساجي، ثم يكون بعد ذلك محتاجاً إلى من يهتم به وقت ما تغافل عنه الناس، وانشغلوا كلٌّ بما يغنيه.
- ومن معاني اليتم: الانفراد، يقول الناس في أمثالهم: هذه دُرَّة يتيمة؛ أي: إنَّها شيء منفرد، وهذا عالم يتيم في بابه؛ أي: إنَّه لا يوجد له نظير، وهذا إنسان يتيم في أخلاقه، بمعنى عَزَّ أن يوجد مثله.
- ومن معاني اليتم: الفقد، بمعنى أنَّ اليتيم يفقد حاجيَّات يجدها غيره، يفقد ثوباً يريد أن يسترَ به بدنَه، أو يفقد معنًى يُكسبه الشعور بالثِّقة وعدم الاضطراب، أو ربَّما يفقد مالاً يريد أن يحقق به مصلحة أو يدرك به مآرب أخرى.
والحفاظ على حقوقه العشرة حتى يبلغ سن الرشد وهي:
1) حرمة المال: يقول تعالى: {وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} النساء:2 ويقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} النساء: 10 ويقول تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} الأنعام: 152
2) حرمة القهر: القهر: هو الغلبة مع عدم القدرة على الانتصار للحق أو الأخذ علي يد المعتدي يقول تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} الضحى: 9
3) حق الإكرام: الكرم: هو الإعطاء بسهولة دون عوض مادي أو معنوي والكرم إذا كان بالمال فهو الجود وإن كان بكف ضرر مع القدرة عليه فهو العفو وان كان ببذل النفس فهو الشجاعة يقول تعالى: {كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} الفجر: 17
4) حرمة الدع (الدفع): الدع: الدفع بجفاء وعنف يقول تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ. فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} الماعون.
5) حق الإطعام: يقول تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيرًا} الإنسان: 8 ويقول تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ} البلد: 15 16
6) حق الإيواء: يقول تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى} الضحى
7) حق حفظ الميراث حتى بلوغ سن الرشد: يقول تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} الكهف: 82
8) حق الإحسان: الإحسان: لغة فعل ما ينبغي أن يفعل من الخير والإحسان أعم من الأنعام والإحسان فوق العدل وذاك أن العدل أن يعطي ما عليه ويأخذ ماله أما الإحسان فإنه يعطي أكثر مما عليه ويأخذ أقل ماله فتحري العدل واجب وتحري الإحسان ثواب وتطوع والإحسان في الشريعة: (أن تعبد الله كأنك تراه) حديث نبوي شريف (صحيح) يقول تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} البقرة: 83 ويقول تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ} البقرة: 177 ويقول تعالى: {قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} البقرة: 215
9) حق القسط: بكسر القاف وسكون السين هو العدل والقسط لضم القاف هو الجور يقول تعالى: {وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} النساء: 127
10) الحق في الفيء: الفيء: لغة الرجوع وعند الفقهاء: هو ما يحل أخذه من أموال الكفار بلا قتال كالخراج والجزية وهو لكافة المسلمين ولا يخمس وأما المأخوذ بقتال فيسمي: الغنيمة: والبعض يطلق الفيء علي كل ما أخذه الإمام (الخليفة) من أموال الكفار غنيمة أو جزية أو إخراجا أو مال صلح والفيء في الاصطلاح هو ما يوضع في بيت المسلمين يقول تعالي: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} الحشر: 7
لَقَدِ اهْتَمَّ الإِسْلاَمُ بِشَأْنِ الْيَتِيْمِ الاِهْتِمَامَ البَالِغَ مِنْ نَاحِيَةِ تَرْبَيْتِهِ وَمُعَامَلَتِهِ وَضَمَانِ مَعِيْشَتِهِ، حَتَّى يَنْشَأَ عُضْواً نَافِعاً منتجا فِي مُجْتَمَعِهِ، يَنْهَضُ بِوَاجِبَاتِهِ، وَيَقُومُ بِمَسْؤُولِيَّاتِهِ، فَمِنَ اهْتِمَامِ القُرآنِ الكَرِيْمِ بِشَأْنِ الْيَتِيْمِ أَمْرُهُ بِعَدَمِ قَهْرِهِ، وَالْحَطِّ مِنْ شَأْنِهِ وَكَرَامَتِهِ، يَقُولُ تَعَالَى: {فَأَمَا الْيَتِيْمَ فَلاَ تَقْهَرْ}، وَيَقُولُ سُبْحَانَهُ وتعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّيْنِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيْمَ}، فَجَعَلَ ازْدِرَاءَ الْيَتِيْمِ آيَةً مِنْ آيَاتِ التَّكْذِيْبِ بِيَوْمِ الدِّيْنِ، وَجَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الكَثِيْرُ مِنَ الأَحَادِيْثِ الَّتِي تَحُضُّ عَلَى العِنَايَةِ بِالْيَتِيْمِ وَتُبَشِّرُ الأَوْصِيَاءَ إِنْ أَحْسَنُوا الوِصَايَةَ بِأَنَّهُمْ مَعَهُ - عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ - فِي الْجَنَّةِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: (أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيْم فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا، وَأَشَارَ بِأَصبُعِهِ السَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا)، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (كَافِلُ الْيَتِيْمِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَنَا وَهُوَ كَهَاتِيْنِ فِي الْجَنَّةِ)، وَأَشَارَ الرَّاوِي بِالسَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى، وَقَالَ أَيْضاً - عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ -: (مَنْ قَبَضَ يَتِيْماً مِنْ بَيْنِ مُسْلِمَيْنِ إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ البَتَّةَ إِلاَّ أَنْ يَعْمَلَ ذَنباً لاَ يُغْفَرُ لَهُ)، وَفِي رِوَايَةٍ: (حَتَّى يَسْتَغْنِي عَنْهُ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ)، وَقَالَ: (مَنْ كَفَلَ يَتِيْماً لَهُ ذَا قَرَابَةٍ أَوْ لاَ قَرَابَةَ لَهُ فَأَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ - وَضَمَّ أَصبُعَيْهِ -، ومَنْ سَعَى عَلَى ثَلاَثِ بَنَاتٍ فهُوَ فِي الْجَنَّة، وكَانَ لَهُ كَأَجْرِ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيْلِ اللَهُ صَائِماً قَائِماً)، وَقَالَ صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ: (مَنْ عَالَ ثَلاَثةً مِنَ الأَيْتَامِ كَانَ كَمَنْ قَامَ لَيْلَهُ وَصَامَ نَهَارَهُ وَغَدَا وَرَاحَ شَاهِراً سَيْفَهُ فِي سَبِيْلِ اللهِ، وَكُنْتُ أَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ أَخَوَانِ،َمَا أَنَّ هَاتَيْنِ أُخْتَانِ)، وَأَلْصَقَ أَصبُعَيْهِ السَّبَّابَةَ وَالوُسْطَى، وَوَرَدَ عَنْهُ أَيْضاً صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: (خَيْرُ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِيْنَ بَيْتٌ فِيْهِ يَتِيْمٌ يُحْسَنُ إِلَيْهِ، وَشَرُّ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِيْنَ بَيْتٌ فِيْهِ يَتِيْمٌ يُسَاءُ إِلَيْهِ)، وَجَاءَ أَيْضاً: (أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَفْتَحُ بَابَ الْجَنَّةِ إِلاَّ أَنِّي أَرَى امْرَأَةً تُبَادِرُنِي، فَأَقُولُ: مَالَكِ وَمَنْ أَنتَ؟ تَقُولُ: أَنَا امْرَأَةٌ قَعَدْتُ عَلَى أَيْتَامٍ لِي)، وَقَالَ أَيْضاً صلى الله عليه وسلم: (الَّلهُمَّ إِنَّي أُحِرُّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ: الْيَتِيْمِ وَالْمَرأَةِ)، وَمَعْنَى أُحَرِّجُ: أَيْ أُلْحِقُ الْحَرَجَ وَالإِثْمَ بِمَنْ ضَيَّعَ حَقَّهُمَا..
إِنَّ حَقَّ الْيَتِيْمِ فِي الرِّعَايَةِ وَالعِنَايَةِ أَكَّدَهُ كِتَابُ اللهِ تَعَالَى وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، فَعَلَى كَافِلِ الْيَتِيْمِ أَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهِ كَإِحْسَانِهِ إِلَى بَقِيَّةِ أَوْلاَدِهِ، وَلَمَّا نَزَلَ الأَمْرُ بِرِعَايَةِ حَقِّ الْيَتِيْمِ فِي القُرآنِ الكَرِيْمِ تَحَرَّجَ الْمُسْلِمُونَ فِي مُعَامَلَتِهِمْ لِلْيَتَامَى خَشْيَةَ التَّقْصِيْرِ فِي حَقِّهِمْ؛ فَسَأَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ؛ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَسأَلُونَكَ عَنِْ اليَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَيرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيْزٌ حَكِيْمٌ}، فَأَفْهَمَهُمْ أَنَّ الْمُخَالَطَةَ مَعَ العَدْلِ وَالإِصْلاَحِ مِنْ مُقْتَضَى مَا بَيْنَهُمْ مِنَ الأُخُوَّةِ الإِنسَانِيَّةِ وَالدِّيْنِيَّةِ وَالرَّحِمِ.
وحذَّر الإسلام أشد الحذر من أكل أموال اليتامى بالباطل وعدَّه من الكبائر؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ))، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: (الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ)؛ (سنن أبي داوود: 2490)؛ بل أمر بإعطائهم حقوقَهم كاملة العد والقيمة بلا إبطاء؛ قال الله تعالى: {وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيرًا} [النساء: 2]، فوصف أكل أموالهم بالظلم الكبير، الذي لا يعلم حدوده إلا الله - تعالى - ولهذا كان جزاء من يأكلون أموال اليتامى عاقبة الخسارة والنَّدم.
سائلا الله للجميع السعادة في الدارين.