من أعمال القلوب الرفيعة التي تدل على سمو النفس وكرم الخلق؛ وأثنت الشريعة على ممتثله؛ وعدت أصحابه من القلة خلق الشكر.
والشكر يقوم ابتداء في القلب؛ ثم تنبعث الجوارح في فعل ما يدل على أن صاحبها من الشاكرين.
فالشّكر عرفان الإحسان ونشره، وهو مأخوذ من قولك: شكرت الإبل تشكر إذا أصابت مرعى فسمنت عليه، والشّكران خلاف النكران. والشّكر من اللّه: المجازاة والثّناء الجميل.
وقد أمر الله - عز وجل - عباده المخلصين من رسله وأنبيائه بالشكر؛ وأمر به المؤمنين من أوليائه؛ فقال تعالى: ﴿ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [سورة الأعراف آية: 144]، وقال تعالى: ﴿ فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [سورة النحل آية: 114]، وقال تعالى: ﴿ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [سورة الزمر آية: 66].
وقال الإمام ابن القيّم - رحمه اللّه تعالى -: قرن اللّه سبحانه الشّكر بالإيمان، وأخبر أنّه لا غرض له في عذاب خلقه إن شكروا وآمنوا به فقال تعالى: ﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ﴾ [سورة النساء آية: 147] أي: إن وفّيتم ما خلقكم له، وهو الشّكر والإيمان فما أصنع بعذابكم؟ وأخبر - سبحانه - أنّ أهل الشّكر هم المخصوصون بمنّته عليهم من بين عباده. فقال: ﴿ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴾ [سورة الأنعام آية: 53].
وقسّم اللّه - سبحانه وتعالى - النّاس إلى شكور وكفور، فأبغض الأشياء إليه الكفر وأهله، وأحبّ الأشياء إليه الشّكر وأهله. قال تعالى: ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ [سورة الإنسان آية: 3].
وهذا كثير في القرآن. يقابل - سبحانه - بين الشّكر والكفر فهو ضدّه.
وعلّق اللّه - سبحانه - المزيد بالشّكر والمزيد منه لا نهاية له كما لا نهاية لشكره. قال تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [سورة إبراهيم آية: 7].
وأوقف - سبحانه - الجزاء على المشيئة كثيرا وأطلق ذلك في الشّكر. فقال تعالى: ﴿ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ﴾ [سورة آل عمران آية: 145]، وقال - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ [سورة آل عمران آية: 144]، بل قد جعل الشّكر هو الغاية من خلقه وأمره، فقال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [سورة النحل آية: 78]، وأخبر - سبحانه - أنّه إنّما يعبده من شكره، ومن لم يشكره لم يكن من أهل عبادته فقال: ﴿ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [سورة البقرة آية: 172]، وقد أثنى اللّه - سبحانه - على أوّل رسول بعثه إلى أهل الأرض بالشّكر. فقال: ﴿ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ﴾ [سورة الإسراء آية: 3]، كما أثنى - سبحانه - على خليله إبراهيم بشكره نعمه فقال: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [سورة النحل آية: 120- 121]، فأخبر عنه - سبحانه - بصفات ثمّ ختمها بأنّه شاكر لأنعمه، فجعل الشّكر غاية خليله، وأمر اللّه - عزّ وجلّ - عبده موسى أن يتلقّى ما آتاه من النّبوّة والرّسالة وتكليمه إيّاه بالشّكر. فقال تعالى: ﴿ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [سورة الأعراف آية: 144]، بل جعل اللّه - عزّ وجلّ - أوّل وصيّة وصّى بها الإنسان بعدما عقل عنه بالشّكر له وللوالدين. فقال: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ [سورة لقمان آية: 14] كما أخبر - سبحانه - أنّ رضاه في شكره فقال: ﴿ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ ﴾ [سورة الزمر آية: 7].
موقع الإسلام