أ- ما هو مفهومُ اليقينِ باللهِ؟
* مفهومُ اليقينِ بالله:
* اليقينُ لغةً:
تدورُ كلمةُ اليقينِ في الكتابِ والسنةِ وفي معاجم اللغة العربية على معنيينِ يؤولُ أحدهما إلى الآخرِ:
أولهما: العِلمُ الجازمُ الذي لا يَقبلُ التَّشكيكَ؛ كما قالَ تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ﴾ [الواقعة: 95]، وقال أيضًا: ﴿ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ﴾ [الحاقة: 51].
الثاني: الموت؛ كما قال سبحانه: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 99].
وجاءَ في التفسيرِ: يقولُ - تعالى ذِكْرُه - لنبيِّه -صلى الله عليه وسلم-: ) واعبُدْ ربَّك حتى يأتيك الموت (، وهكذا قال مجاهد، والحسن، وقتادة، وعبد الرحمن بن زَيْد بن أسلمَ، وغيرُه.
وفي الصحيح مِنْ حديثِ الزُّهريِّ عنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: ) أَنَّ أُمَّ الْعَلَاءِ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ بَايَعَتْ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ اقْتسم الْمُهَاجِرُونَ قُرْعَةً فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، فَأَنْزَلْنَاهُ فِي أَبْيَاتِنَا، فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ، دَخَلَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللهَ قَدْ أَكْرَمَهُ؟" فَقُلْتُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ؟! فَقَالَ: أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ... (.
ومن تأَمَّلَ في هذا المعنى الثاني لليقينِ يجدُ أَنَّهُ يؤولُ للمعنى الأَوَّلِ، وهو (العِلمُ الجازمُ الذي لا يَقبلُ التَّشكيكَ)؛ إذْ إنَّ الموتَ حَقٌّ، داخلٌ في العلمِ الجازمِ الذي لا يقبلُ التشكيكَ.
* اليقينُ اصطلاحًا:
نقَلَ ابنُ قيِّم الجوزية (ت: 751هـ)- رحمه الله – في (المدارج) بعضَ التعريفاتِ لليقينِ، ومنْ ذلكَ:
اليقينُ هو: (استقرارُ العِلْمِ الذي لا ينقلِبُ ولا يُحوَّلُ ولا يتغيَّرُ في القلْبِ).
وأوردَ الجرجانيُّ في تعريفاتهِ: أنَّ اليقينَ هو: (طُمأنينة القَلْب، على حقيقة الشيءِ وتحقيق التصديق بالغَيْب، بإزالة كلِّ شكٍّ ورَيْب).
واليقينُ لهُ ثلاثُ مراتبُ؛ ألا وهي: علمُ اليقينِ وعينُ اليقينِ وحقُّ اليقينِ؛ كما جاءَ ذلك في محكمِ التنزيل: ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾ [التكاثر: 1 - 8].
وقد مثَّل ابن القيِّم لهذهِ المراتبِ الثلاثِ بقولهِ: "مَنْ أَخبركَ أنَّ عندَهُ عَسلًا وأنتَ لا تَشكُّ في صِدْقهِ، ثُمَّ أَراكَ إيَّاهُ فازددتَ يقينًا، ثم ذُقتَ مِنْهُ، فالأَوَّلُ: علمُ اليقينِ، والثَّاني: عينُ اليقينِ، والثَّالثُ: حَقُّ اليقينِ".
والعلاقةُ بينَ الإيمانِ واليقينِ علاقةٌ وثيقةٌ للغايةِ؛ كما قالَ عبدُ الله بنُ مسعودٍ -رضيَ اللهُ عنهُ-: "الصبرُ شطرُ الإيمانِ، واليقينُ الإيمانُ كُلُّهُ ".
ب- مَا هِي ثَمراتُ اليقينِ باللهِ؟
* ثمراتُ اليقينِ بالله:
1- الانتفاعُ بالآياتِ والبراهينِ، فقال: ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾ [الأنعام: 75].
2- الهُدى والفلاح؛ كما قالَ تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 4 - 5].
3- إحرازُ الإمامةِ في الدِّينِ؛ قالَ - تعالى -: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 24].
4- الرِّضا بأحكامِ اللهِ عَزَّ وجلَّ؛ كما قالَ اللهُ تعالى: ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة: 50].
5- اجتنابُ الظُّلم بشتى صورهِ: نظرًا لكثرةِ الظُّلمِ والشَّحناءِ بينَ المسلمينَ في عصرنا الحاضرِ، وأنَّهُ لا شيءَ يمنعُ النَّفسَ منْ ظلمِ غيرها في نفسٍ، أو مالٍ، أو عرض: كاليقين بالرجوع إلى الله -عز وجل-، وإعطاء كل ذي حق حقه، وإنصاف المظلوم ممن ظلمه، فإذا تذكَّرَ العبد هذا الموقف العصيب الرهيب، وأنه لا يضيع عند الله شيء، كما قال تعالى: ﴿ وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47] وقوله تعالى: ﴿ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ﴾ [طه: 111]، إذا تذكر هذه المواقف واتعظ بهذه الآيات، وأيقن بتحققها، فلا شك أن ذلك سيمنعه من التهاون في حقوق الخلق، والحذر من ظلمهم في دم أو مال أو عرض، خاصة وأن حقوق العباد مبنية على المشاحة والحرص على استيفاء الحق من الخصم، وبالذات في يوم الهول الأعظم الذي يتمنى العبد فيه أن يكون له مظلمة عند أمه وأبيه وصاحبته وبنيه، فضلًا عن غيرهم من الأباعد، ومعلوم أن التقاضي هنالك ليس بالدينار والدرهم ولكن بالحسنات والسيئات.
فيا ليتنا نتذكر دائمًا يوم الفصل العظيم، يوم يفصل الحكم العدل بين الناس، ويقضي بين الخصماء بحكمه وهو أحكم الحاكمين، ليتنا لا نغفل عن هذا المشهد العظيم، حتى لا يجور بعضنا على بعض، ولا يأكل بعضنا لحوم بعض، ولا نتكلم إلا بعلم وعدل، إنه لا شيء يمنع من ذلك كله إلا الخوف من الله -عز وجل-، وخوف الوقوف بين يديه، واليقين الحق بأن ذلك كائن في يوم لا ريب فيه؛ قال تعالى: ﴿ إنَّكَ مَيِّتٌ وَإنَّهُم مَيِّتُونَ * ثُمَّ إنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ﴾ [الزمر: 30، 31].
6- تقصير الأمل وحفظ الوقت:
إن من أخطر الأبواب التي يدخل منها الشيطان على العبد: طول الأمل، والأماني الخادعة التي تجعل صاحبها في غفلة شديدة عن الآخرة، واغترار بزينة الحياة الدنيا، وتضييع ساعات العمر النفيسة في اللهث وراءها حتى يأتي الأجل الذي يقطع هذه الآمال، وتذهب النفس حسرات على ما فرطت في عمرها، وأضاعت من أوقاتها، ولكن اليقين بالرجوع إلى الله -عز وجل- والتذكر الدائم لقصر الحياة وأبدية الآخرة وبقائها، هو العلاج الناجع لطول الأمل وضياع الأوقات.
يقولُ ابنُ قدامة -رحمهُ اللهُ-: (واعلمْ أنَّ السببَ في طولِ الأملِ شيئانِ:
أحدهما: حُبُّ الدُّنيا، والثاني: الجهلُ. أمَّا حُبُّ الدنيا: فإنَّ الإنسانَ إذا أَنسَ بها وبشهواتِها ولذَّاتها وعلائِقها، ثَقُلَ على قلبهِ مفارقتها، فامتنعَ منَ الفكرِ في الموتِ، الَّذِي هو سببُ مفارقتها، وكلُّ مَنْ كَرِهَ شيئًا دَفَعَه عَنْ نفسِه.
السببُ الثاني: الجهلُ، وهو أنَّ الإنسانَ يُعَوِّلُ على شبابهِ، ويستبعدُ قربَ الموتِ مع الشَّبابِ، أَوَليسَ يتفكَّرُ المسكينُ في أنَّ مشايخَ بلدهِ لو عُدُّوا كانوا أقلَّ مِنَ العشرةِ؟ وإنما قَلُّوا لأنَّ الموتَ في الشبابِ أكثرُ، وإلى أنْ يموتَ شيخٌ قد يموتُ ألفُ صبيٍّ وشابٍّ، وقد يغترُّ بصحتهِ، ولا يدري أنَّ الموتَ يأتي فجأةً وإنَّ استبعدَ ذلكَ.
7- دخولُ الجنةِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ) كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللهُ عليهِ وسلَّم- فِي مَسِيرٍ – قَالَ - فَنَفِدَتْ أَزْوَادُ الْقَوْمِ قَالَ حَتَّى هَمَّ بِنَحْرِ بَعْضِ حَمَائِلِهِمْ - قَالَ - فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ جَمَعْتَ مَا بَقِيَ مِنْ أَزْوَادِ الْقَوْمِ فَدَعَوْتَ اللهَ عَلَيْهَا. قَالَ فَفَعَلَ - قَالَ - فَجَاءَ ذُو الْبُرِّ بِبُرِّهِ، وَذُو التَّمْرِ بِتَمْرِهِ - قَالَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَذُو النَّوَاةِ بِنَوَاهُ – قُلْتُ: وَمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ بِالنَّوَى؟ قَالَ: كَانُوا يَمُصُّونَهُ وَيَشْرَبُونَ عَلَيْهِ الْمَاءَ. قَالَ فَدَعَا عَلَيْهَا - قَالَ - حَتَّى مَلأَ الْقَوْمُ أَزْوِدَتَهُمْ - قَالَ - فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: " أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، لا يَلْقَى اللَّهَ بِهِمَا عَبْدٌ غَيْرَ شَاكٍّ فِيهِمَا إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ (.