إعداد: عفاف بنت يحيى آل حريد
تمهيد:
اللين والرفق صورة من صور الرحمة يضعها الله في قلب العبد، قال تعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ... ﴾ (آل عمران/ 159).
والرفيق الرحيم أحق الناس برحمة الله كما في الحديث: (الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) صحيح الجامع، ولذلك فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (كان أرحم الناس بالصبيان والعيال) صحيح الجامع، ونفى كمال الإيمان عمن لا يرحم، ) ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا ( صحيح الجامع.
الرفق لغةً:
أصل المادة يدل على موافقة ومقاربة بلا عنف، يقول ابن فارس: الراء والفاء والقاف أصل واحد يدل على موافقة ومقاربة بلا عنف، فالرفق خلاف العنف، وفي الحديث: ) إن الله ـ جل ثناؤه ـ يحب الرفق في الأمر كله ( هذا هو الأصل، ثم يشتق منه كل شيء يدعو إلى راحة وموافقة.
والرفق والمرفَقُ والمرفِقُ: ما استعين به، وقد ترفق به وارتفق، وفي التنزيل: ﴿ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا ﴾ (الكهف/ 16).
الرفق اصطلاحًا:
هو لين الجانب بالقول والفعل والأخذ بالأسهل، وهو ضد العنف.
حقيقة الرفق:
قال الغزالي في الإحياء: اعلم أن الرفق محمودٌ ويضاده العنف والحدة، والعنف نتيجة الغضب والفظاظة، والرفق نتيجة حسن الخلق والسلامة، وقد يكون سبب الحدة والغضب، وقد يكون سببها شدةُ الحرص واستيلاؤه بحيث يدهش عن التفكر ويمنع من التثبت، فالرفق في الأمور ثمرة لا يثمرها إلا حسن الخلق، ولا يحسن الخلق إلا بضبط قوة الغضب وقوة الشهوة وحفظهما على حد الاعتدال.
ولأجل هذا أثنى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الرفق وبالغ فيه، قال سفيان الثوري لأصحابه: (أتدرون ما الرفق؟) قالوا: قل يا أبا محمد، قال: أن تضع الأمور في مواضعها: الشدة في موضعها، واللين في موضعه، والسيف في موضعه، والسوط في موضعه. وهذه إشارة إلى أنه لا بد من مزج الغلظة باللين والفظاظة بالرفق كما قيل:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مُضر كوضع السيف في موضع الندى
فالمحمود وسط بين العنف واللين كما في سائر الأخلاق، ولكن لما كانت الطباع إلى العنف والحدة أميل كانت الحاجة إلى ترغيبهم في جانب الرفق أكثر، فلذلك كثر ثناء الشرع على جانب الرفق دون العنف.
الرفيق من أسمائه تبارك وتعالى:
قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي: من أسمائه تعالى: (الرفيق) في أفعاله وشرعه، ومن تأمل ما احتوى عليه شرعه من الرفق وشرع الأحكام شيئًا بعد شيء، وجريانها على وجه السداد واليسر، ومناسبة العباد وما في خلقه من الحكمة إذ خلق الخلق أطوارًا، ونقلهم من حالة إلى أخرى بحكم وأسرارٍ لا تحيط بها العقول، وهو تعالى يحب من عباده أهل الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف.
مجالات الرفق:
1. الرفق مع الأهل:
قالت عائشة رضي الله عنها: ) ما ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئا قط بيده ولا امرأة ولا خادمًا، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل شيء منه قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله تعالى فينتقم لله تعالى ( رواه مسلم.
وكانت زوجه عائشة إذا هويت شيئا أتبعها إياه ما لم يكن إثما، وقد أذن لها -صلى الله عليه وسلم- بالنظر إلى أهل الحبشة وهم يلعبون وأذن لها بالفرح واللعب يوم العيد.
2. الرفق مع الخادم:
فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: ) خدمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين والله ما قال لي أف قط، ولا قال لي لشيء لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا. ( رواه مسلم.
3. الرفق مع الأطفال:
فعن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا- قالت: ) كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يؤتى بالصبيان فيبرك عليهم ويحنكهم ويدعو لهم. ( أخرجه البخاري.
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: ) كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يزور الأنصار ويسلم على صبيانهم ويمسح على رؤوسهم. ( رواه النسائي.
وكان دائما يقبل الحسن والحسين ويلاعبهما. وحمل أمامة بنت زينب في الصلاة رفقًا بها.
4. الرفق مع السائل:
قال أنس: ) كنت أمشي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء. ( (متفق عليه).
5. الرفق في تعليم الجاهل:
عن معاوية بن الحكم السلمي -رضي الله عنه- يقول: ) بينما أنا أصلي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله. فرماني القوم بأبصارهم فقلت: واثكل أميّاه، ما شأنكم تنظرون إلي؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني، لكن سكت، فلما صلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فو الله ما كهرني ولا ضربني، ولا شتمني، قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير، وقراءة القرآن. ( (رواه مسلم).
6. الرفق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
عن أَبي هريرة -رضي الله عنه- قَال: ) بال أعرابي في المسجد فقام الناس إليه ليقعوا فيه فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: دعوه وأريقوا على بوله سجلا من ماء أو ذنوبا من ماء، إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ( (رواه البخاري).
7. الرفق مع العاصي التائب:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: ) بينما نحن جلوس عند النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ جاءه رجل فقال يا رسول الله هلكت. قال: ما لك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم. فقال -صلى الله عليه وسلم-: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. فقال: فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟ قال: لا. فمكث النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: فبينما نحن على ذلك أُتي النبي -صلى الله عليه وسلم- بعرق فيه تمر والعرق المكتل فقال: أين السائل؟ فقال: أنا. فقال: خذه فتصدق به ( (متفق عليه).
وكذلك رفق مع الرجل الذي قبل امرأة وجاء نادما، فبين له أن الصلاة كفارة لذنبه ولم يعنف عليه، وهذا ثابت في الصحيح.
8. الرفق في الصبر على الأذى:
قالت عائشة -رضي الله عنها- للنبي -صلى الله عليه وسلم-: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: ) هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا ( (متفق عليه).
9. الرفق في التعامل مع الكفار:
فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ) دخل رهط من اليهود على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: السام عليك، ففهمتها فقلت: عليكم السام واللعنة. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: مهلًا يا عائشة! فإن الله يحب الرفق في الأمر كله. فقلت: يا رسول الله، أولم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فقد قلت عليكم. ( (متفق عليه).
وكان -صلى الله عليه وسلم- يخاطب الكفار ويناظرهم، ويقبل هديتهم، ويعود مريضهم، ويجيرهم، ويحسن إليهم إذا اقتضت المصلحة ذلك.
10. الرفق بالناس في العبادات:
قال جابر بن عبد الله: أقبل رجل بناضحين وقد جنح الليل، فوافق معاذًا يُصلي فترك ناضحه وأقبل إلى معاذ، فقرأ بسورة البقرة أو النساء، فانطلق الرجل وبَلَغَه أن معاذًا نال منه، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فَشَكَا إليه معاذًا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ) يا معاذ أفتان أنت أو فاتن، ثلاث مرار، فلولا صليت بـ سبح اسم ربك، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى، فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة ( (متفق عليه).
وعن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ) إني لأدخل الصلاة أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي فأخفف من شدة وجد أمه به ( (رواه مسلم).
ومن رفق النبي -صلى الله عليه وسلم- بأمته أنه نهاهم عن الوصال خشية المشقة بهم، ورفقه بهم في ترك الأمر بالسواك عند الصلاة، وترك تأخير العشاء إلى وقتها الفاضل؛ خشية المشقة عليهم، وغير ذلك مما يطول ذكره، كالإبراد بالصلاة وقت الحر، والجمع بين الصلوات حال العذر.
11. الرفق مع النفس في التطوع:
فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ) كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم ( (متفق عليه). وكان عمله ديمة ولو قل. وقال -صلى الله عليه وسلم-: ) خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا ( (متفق عليه).
ونهى عبد الله بن عمرو عن المبالغة في العبادة خشية تضييع الحقوق والواجبات.
12. الرفق بالجمادات:
المسلم رفيق مع كل شيء، حتى مع الجمادات، فيحافظ على أدواته، ويتعامل مع كل ما حوله بلين ورفق، ولا يعرضها للتلف بسبب سوء الاستعمال والإهمال.
فضل الرفق:
نعلم أن للرفق دور كبير في تحقيق السلام، وإشاعة الخير، والحب بين الناس، فإذا قام في الأسرة وجد الترابط الأسري، وإذا استعمله الحاكم مع محكوميه لعم الخير والأمن والأمان، وإذا انتهجه كل داع إلى دين الله لتجمعت حوله القلوب، وكما روى الإمامان البخاري ومسلم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ) إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله (، والمسلم برفقه ولينه يصير بعيدًا عن النار، ويكون من أهل الجنة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ) ألا أخبركم بمن يحْرُم على النار؟ أو بمن تَحْرُم عليه النار؟ تَحْرُم النار على كل قريب هين لين سهل ( [الترمذي وأحمد].
وإذا كان المسلم رفيقًا مع الناس، فإن الله - سبحانه - سيرفق به يوم القيامة، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو، فيقول: ) اللهم مَنْ وَلِي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم، فأرفق به ( [مسلم].
كما أن المتأني الذي يأتي الأمور برفق وسكينة، اتباعًا لسنن الله في الكون واقتداء بهدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تتيسر له الأمور وتذلل له الصعاب.
وسأذكر في الختام بيت الشعر الذي يقول:
من يستعن بالرفق في أمره يستخرج الحية من وكرها
المراجع:
- إحياء علوم الدين للغزالي
- موسوعة نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- إعداد مجموعة من المختصين بإشراف صالح بن حميد وعبد الرحمن بن ملوح.
- هذه أخلاقنا حتى نكون مؤمنين حقًا لمحمود الخزندار.
- موقع صيد الفوائد خلق الرفق في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- لخالد بن سعود البليهد.
- الرفق أساس الحياة في موقع صوت الكويت.
- الرفق في السنة النبوية حسن محمد عبه جي.