إن الحمد لله تعالى، نحمده، ونستعين به، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهدِ الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هاديَ له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فمن الأخلاق الحميدة والصفات الفاضلة كتم السر وعدم إفشائه، ولا يقدر على ذلك إلا ذوو الشهامة والمروءة، ولهذا قيل: «أدنى صفات الشريف كتم السر، وأعلاها نسيان ما أُسِرَّ به إليه». وقيل: «صدور الأحرار قبور الأسرار».
وقد حثت السنة النبوية على رعاية جانب السر، فعن جابر رضي الله عنه مرفوعا: ) إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ بِالْحَدِيثِ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ (.
معنى السر ومفهومه:
مِنْ مَعَانِي السِّرِّ لُغَةً: مَا يُكْتَمُ فِي النَّفْسِ، وَالْجَمْعُ أَسْرَارٌ. وَأَسَرَّ الشَّيْءَ: كَتَمَهُ وَأَظْهَرَهُ فَهُوَ مِنَ الأضْدَادِ.
قَال الرَّاغِبُ: الإسْرَارُ خِلاَفُ الإعْلانِ، وَيُسْتَعْمَل فِي الأعْيَانِ وَالْمَعَانِي.
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
قال زهير:
فلا تَكْتُمُنَّ الله مَا في صُدُورِكُمْ
لِيَخْفَى ومَهْمَا يُكْتَمِ اللّهُ يَعْلَمِ
يُؤخَّرْ فَيُوضَعْ في كتابٍ فيُدّخَرْ
ليَوْمِ الحِسابِ أوْ يُعَجَّلْ فيُنقَمِ
فالإسرار خلاف الإعلان، قال سبحانه وتعالى: ﴿ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ [البقرة:٧٧].
والمقصود بكتمان السر؛ قال أبو القاسم بن محمد: «الكتمان ستر الحديث»، هو أن الكلام إذا كان سرًّا فإنه لا يُفشَى، وأما إذا كان غير سر وأنه مما يسمح في إفشائه أو أن المطلوب هو إفشاؤه فإن هذا لا يدخل في المحذور، وإنما الذي يمنع من إفشائه ونقله هو الذي يكون صاحبه يريد كتمانه وعدم إفشائه.
قال الجاحظ: «كتمان السر خلق مركب من الوقار وأداء الأمانة، فإن إخراج السر من فضول الكلام وليس بوقور من تكلم بالفضول. وأيضا فكما أنه من استودع مالا فأخرجه إلى غير مودعه فقد خفر الأمانة، كذلك من استودع سرا فأخرجه إلى غير صاحبه فقد خفر الأمانة، وكتمان السر محمود من جميع الناس، وخاصة ممن يصحب السلطان، فإن إخراجه أسراره مع أنه قبيح في نفسه يؤدي إلى ضرر عظيم يدخل عليه من سلطانه».
قال ابن حجر: «وقال ابن بطال: الذي عليه أهل العلم أن السر لا يباح به إذا كان على صاحبه منه مضرة وأكثرهم يقول: إنه إذا مات لا يلزم من كتمانه ما كان يلزم في حياته إلا أن يكون عليه فيه غضاضة، قلت: الذي يظهر انقسام ذلك بعد الموت إلى ما يباح وقد يستحب ذكره، ولو كرهه صاحب السر، كأن يكون فيه تزكية له من كرامة أو منقبة أو نحو ذلك، وإلى ما يكره مطلقا وقد يحرم وهو الذي أشار إليه ابن بطال، وقد يجب كأن يكون فيه ما يجب ذكره، كحق عليه كان يعذر بترك القيام به فيرجى بعده إذا ذكر لمن يقوم به عنه أن يفعل ذلك».
ما ورد في فضل كتم السر وعدم إفشائه:
أولا: من كتاب الله تعالى:
إن كتمان السر من الأمور الداخلة تحت باب رعاية الأمانة، الداخلة تحت عموم كثير من الآيات كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء:٥٨].
وقال تعالى: ﴿ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأنعام:١٥٢].
وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنفال:٢٧].
كما تدخل في مسألة الوفاء بالعهود، وقد قال تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النحل:٩١].
وقال تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً ﴾ [الإسراء:٣٤].
ثانيا: من السنة النبوية:
روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ) إنما يتجالس المتجالسان بالأمانة، فلا يحل لأحدهما أن يفشي على صاحبه ما يكره (.
وعنه صلى الله عليه وسلم: ) المجالس بالأمانة إلا ثلاثة مجالس سفك دم حرام أو فرج حرام أو اقتطاع مال بغير حق (.
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: «القلوب أوعية، والشفاه أقفالها، والألسنة مفاتيحها، فليحفظ كل إنسان مفتاح سره».
وقال العباس بن عبد المطلب لابنه عبد الله -رضي الله عنهما-: «يا بُنيّ إن أمير المؤمنين يدنيك -يعني عمر- فاحفظ عني ثلاثًا: لا تفشينّ له سرًّا، ولا تغتابنّ عنده أحدًا، ولا يطلعنّ منك على كذبة».
الخصلة الثانية من خصال المنافق أنه: «إذا اؤتمن خان» أي إذا كانت عنده أمانة من الأموال أو الحقوق أو الأسرار أضاعها ولم يحفظها، فأكل الوديعة أو جحدها، أو أهدر الحقوق وأفشى الأسرار. وإذا ولي عملا من أعمال المسلمين تلاعب فيه بالمحاباة وأخذ الرشوة وتعطيل مصالح المسلمين.
لمتابعة المزيد حمل الملف المرفق...