إن الحمد لله تعالى، نحمده، ونستعين به، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهدِ الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فإن فضل الوالدين كبيرٌ، وإحسانَهما سابقٌ وعظيمٌ، وكلُّنا يذكر رعايتَهما له حالَ الصغر وضعفِ الطفولة.
تعريف بر الوالدين:
(وبر الوالدين يعني: الاعتناء بأمرهما، والقيام بمصالحهما من قضاء دين، وخدمة، ونفقة، وغير ذلك من أمور الدين والدنيا). وحقُّ الوالدين في هذا البر باقٍ، ومصاحبتُهما بالمعروف واجبةٌ، حتى وإن كانا كافرَيْنِ، فلا يختصُّ برُّهما بكونهما مسلمَيْنِ، بل يجب برُّهما وإن كانا كافرَيْنِ، فعن أسماء بنت أبي بكر قالت: ) قَدِمت عليّ أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدهم، فاستفتيت النبي فقلت: يا رسول الله! إن أمي قدمت عليّ وهي راغبة أفأصِلها؟ قال: نعم، صلي أمك (.
حث الإسلام على بر الوالدين:
إنَّ برَّ الوالدَيْنِ من آكدِ وأعظمِ حقوق العبادِ التي أمرَ اللهُ سبحانه وتعالى برعايتِها، حيثُ جعله اللهُ عز وجل في المرتبة التي تلي حقَّه سبحانه وتعالى في التوحيد، في عدة مواضع من كتابه الكريم.
* قال سبحانه: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ (سورة الإسراء: الآية ٢٣)
* وقال سبحانه: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ (سورة النساء: الآية ٣٦).
* وقال سبحانه: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ (سورة البقرة: الآية ٨٣).
بل تبرُّهما، وتحسن إليهما، حتى ولو أمراك بالكفر بالله وألزماك بالشرك به عز وجل، قال تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ (سورة لقمان: الآيتان ١٤ – ١٥).
قال ابن كثير رحمه الله: «أي: إن حرصا عليك كل الحرص على أن تتابعهما على دينهما فلا تقبل منهما ذلك، ولا يمنعك ذلك من أن تصاحبهما في الدنيا معروفًا، أي: محسِنًا إليهما».
فإذا كان هذا هو موقف الإسلام من برِّ الوالدين، حيث أمرَ بمصاحبَة هذَيْنِ الوالدَيْنِ بالمعروف مع هذا القبح العظيم الذي يأمران ولدهما به - وهو الإشراك بالله سبحانه وتعالى - فما الظن بالوالدين المسلمين لا سيما إنْ كانا صالحَيْنِ؟!
تالله إن حقَّهما لمن أشدِّ الحقوق وآكدِها، وإن القيامَ به على وجهه أصعبُ الأمور وأعظُمها، فالموفَّق من هُدي إليها، والمحروم كلَّ الحرمان من صُرِف عنها.
فضل بر الوالدين:
بر الوالدين سنة الأنبياء:
بر الوالدين من صفات الأنبياء عليهم السلام، وقد أمرنا سبحانه وتعالى في كتابه العظيم أن نقتدي برسله الكرام، فقال عز وجل: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ﴾ (سورة الأنعام: الآية ٩٠)، فرُسل الله سبحانه وتعالى وأنبياؤه بررة بوالديهم، وقد حكى الله عز وجل ذلك عنهم في كتابه الكريم، فقال:
يقول نوح عليه السلام: ﴿ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا ﴾ (سورة نوح: الآية ٢٨).
ويقول إبراهيم عليه السلام: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾ (سورة إبراهيم: الآية ٤١)، ولما هدد آزر ابنه إبراهيم عليه السلام وقال له: ﴿ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ﴾، كان جواب إبراهيم عليه السلام: ﴿ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ﴾ (سورة مريم: الآيتان 46-٤٧).
وهذا إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام يضرب أروع أمثلة البر في تاريخ البشرية؛ وذلك عندما قال له أبوه: ﴿ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى ﴾. فماذا كان رد ذلك الولد الصالح؟! قال كما أخبر الله سبحانه وتعالى عنه: ﴿ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ (سورة الصافات: الآية ١٠٢).
ويقول عز وجل عن يحيى عليه السلام: ﴿ وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ﴾ (سورة مريم: الآية ١٤).
ويقول عيسى عليه السلام: ﴿ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ﴾ (سورة مريم: الآية 32).
وهذا سيد الأنبياء وخاتمهم صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، ثم قال: «استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يُؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي».
وقال أبو الطفيل رضي الله عنه: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لحمًا بالجعرانة - وأنا غلامٌ شابٌّ -، فأقبلتِ امرأةٌ، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسط لها رداءه فقعدتْ عليه فقلت: من هذه؟ قالوا: «أمّه التي أرضعته».
قرن الله عز وجل بر الوالدين بالتوحيد:
حيث جعله الله في المرتبة التي تلي حقه سبحانه في التوحيد، فقال سبحانه وتعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ (سورة الإسراء: ٢٣)، وقال سبحانه: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ (سورة النساء: ٣٦)، وقال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ (سورة البقرة: ٨٣).
لذا فإن رضا الرب من رضا الوالدين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رضا الرب في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد».
بر الوالدين مقدَّم على الجهاد في سبيل الله عز وجل:
الذي هو ذروة سنام الإسلام، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: ) جاء رجل إلى النبي يستأذنه في الجهاد فقال صلى الله عليه وسلم: أحيّ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد (، فالابن إذا أبلغ جهده في برّهما والإحسان إليهما، وآثر هواهما على هواه؛ فإنّ ذلك يقوم مقام قتال العدو.
بر الوالدين يستمرّ في ذرية الإنسان وعقبِه من بعده:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ) بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعِفّوا تعِف نساؤكم (.
بر الوالدين من أفضل الأعمال:
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ) سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها. قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله (.
لمتابعة المزيد حمل الملف المرفق...