إن الحمد لله تعالى، نحمده، ونستعين به، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهدِ الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ أما بعد:
فإن من سنة الله تعالى في هذا الكون أن جعل الدنيا دار ابتلاء وامتحان، وقدَّر أن تكون مليئةً بالمصاعب والمتاعب، دائمةَ التغيّر والتحوّل، لا تثبت على حال، ولا تدوم على شأن، ﴿ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴾ [الفتح: ٢٣]، ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ [محمد: ٣١].
مفهوم القناعة:
توجد علاقة متينة بين القناعة وبين الزهد والرضى، ولذلك عرَّف بعض أهل اللغة القناعة بالرضى، والقانع بالراضي.
قال ابن فارس: «قنع قناعة: إذا رضي، وسميت قناعة؛ لأنه يُقبل على الشيء الذي له راضيًا».
ونحا فريق من أهل الاصطلاح إلى تقسيم القناعة، وجعل أعلى مراتبها الزهد كما هو صنيع الماوردي؛ حيث قال: «والقناعة قد تكون على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن يقتنع بالبُلغة من دنياه، ويصرف نفسه عن التعرض لما سواه؛ وهذا أعلى منازل أهل القناعة، ثم ذكر قول مالك بن دينار: «أزهد الناس من لا تتجاوز رغبته من الدنيا بُلغته».
الوجه الثاني: أن تنتهي به القناعة إلى الكفاية، ويحذف الفضول والزيادة، وهذا أوسط حال المقتنع، وذكر فيه قول بعضهم: من رضي بالمقدور قنع بالميسور.
الوجه الثالث: أن تنتهي به القناعة إلى الوقوف على ما سُنح، فلا يكره ما أتاه وإن كان كثيرًا، ولا يطلب ما تعذَّر وإن كان يسيرًا، وهذه الحال أدنى منازل أهل القناعة؛ لأنها مشتركة بين رغبة ورهبة، فأما الرغبة: فلأنه لا يكره الزيادة على الكفاية إذا سنحت، وأما الرهبة: فلأنه لا يطلب المتعذر عن نقصان المادة إذا تعذرت» ا.هـ.
وبناءً على تقسيم الماوردي فإن المنزلة الأولى هي أعلى منازل القناعة وهي الزهد أيضًا، والمنزلة الثالثة هي التي عليها أكثر الذين عرّفوا القناعة وهي مقصود مقالتنا تلك.
حث الإسلام على القناعة:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ) قد أفلح من أسلم، ورُزق كفافًا، وقنعه الله بما آتاه (. قال المناوي: «قد أفلح من أسلم ورزق كفافًا: أي ما يكف من الحاجات ويدفع الضرورات، وقنعة الله بما آتاه: فلم تطمح نفسه لطلب ما زاد على ذلك؛ فمن حصل له ذلك فقد فاز».
قال الحافظ المنذري: الكفاف ما كفّ عن السؤال مع القناعة لا يزيد على قدر الحاجة، وفيه الزهد: الكفاف الذي ليس فيه فضل عن الكفاية. روى أبو الشيخ ابن حبان في كتاب الثواب عن سعيد بن عبد العزيز أنه سئل: ما الكفاف من الرزق؟ فقال: شبع يوم وجوع يوم ا.هـ.
وقال القرطبي: « هو ما تكف به الحاجات ويدفع الضرورات والفاقات ولا يلحق بأهل الترفهات » ا.هـ.
وإنما كان ذلك فلاحًا لكونه حاز كفايته وظفر بإقامته وسلم من تبعة الغنى وذلّ سؤال الشيء .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ) ليس الغِنَى كثرة العرض ولكن الغِنى غِنى النفس (.
قال ابن بطال: معنى الحديث ليس حقيقة الغنى كثرة المال، فكثير من الموسع عليه فيه لا ينتفع بما أوتي، جاهد في الازدياد لا يبالي من أين يأتيه. فكأنه فقير من شدة حرصه، وإنما حقيقة الغنى غنى النفس، وهو من استغنى بما أوتي وقنع به ورضي ولم يحرص على الازدياد ولا ألحّ في الطلب. وقال القرطبي: وإنما كان الممدوح غني النفس لأنها حينئذ تكفّ عن المطامع فتعزّ وتعظم، ويحصل لها من الحظوة والشرف والمدح أكثر من الغنى الذي يناله مع كونه فقير النفس لحرصه، فإنه يورّطه في رذائل الأمور وخسائس الأفعال لدناءة همته وبخله وحرصه، فيكثر من يذمه من الناس فيصغر قدره عندهم فيصير أحقر من كل حقير وأذلّ من كل ذليل .
صور من قناعة النبي صلى الله عليه وسلم:
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل الناس إيمانًا ويقينًا، وأقواهم ثقةً بالله سبحانه وتعالى وأصلحهم قلبًا، وأكثرهم قناعة ورضا بالقليل، وأنداهم يدًا، وأسخاهم نفسًا، حتى كان - عليه الصلاة والسلام - يفرِّق المال العظيم: الوادي والواديين من الإبل والغنم ثم يبيت طاويًا . وكان الرجل يُسْلم من أجل عطائه صلى الله عليه وسلم ثم يحسن إسلامه. قال أنس رضي الله عنه: إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا؛ فما يمسي حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها .
وقال صفوان بن أمية رضي الله عنه: لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لمن أبغض الناس إليَّ؛ فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَّ. قال الزهري: أعطاه يوم حنين مائة من النعم ثم مائة ثم مائة. وقال الواقدي: أعطاه يومئذ واديًا مملوءًا إبلاً ونعمًا حتى قال صفوان رضي الله عنه: أشهد: ما طابت بهذا إلا نفس نبي. وقال: ) وَاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا أَعْطَانِي وَإِنَّهُ لأَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيَّ فَمَا بَرِحَ يُعْطِينِي حَتَّى إِنَّهُ لأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ (.
وقال أنس رضي الله عنه: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئًا إلا أعطاه، فجاءه رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين، فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم أسلموا؛ فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة.