إن الحمد لله تعالى، نحمده، ونستعين به، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهدِ الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فإن من السهولة بمكانٍ أن يكون المسلم مصليًا أو صوّامًا أو قوّامًا أو داعيةً أو خطيبًا أو معلمًا أو حتى عالمًا، ولكن من الصعوبة بمكان أن يكون وَرِعًا فإن الورع رتبةٌ عزيزة المنال، ومتى ما ارتقى الإنسان إلى مرتبة الورع فقد نال أسمى المراتب، وتحلى بأجمل المناقب التي تؤهله جوار الرحمن، فأكثر الناس اليوم إنما يهمه أن يحقق مآربه في الدنيا وشهواتها وملذاتها دون تريث في الأمر والتفات للشرع وسؤال عن الحكم، وبعضهم قد امتلأ بطنه، وعظم رصيده، وغذي بالحرام جسمه، وما ذلك وما نلاحظه من قلة البركة وانتشار الفساد لهو نتيجة لغياب مفهوم الورع.
تعريف الورع:
الوَرَع في الشرع ليس هو الكف عن المحارم والتحرُّج منها فقط، بل هو بمعنى الكف عن كثيرٍ من المباح، والانقباض عن بعض الحلال خشية الوقوع في الحرام.
وقد وردت تعاريفُ كثيرة عند السلف والعلماء للورع، ومنها قولهم: الوَرَعُ: ترك ما يريبُك، ونفي ما يعيبك، والأخذ بالأوثق، وحمل النفس على الأشق.
وقيل: هو تجنب الشبهات، ومراقبة الخطرات.
وقال ابن القيم رحمه الله: هو ترك ما يُخشى ضرره في الآخرة.
وقيل: هو عبارة عن ترك التسرع إلى تناول أعراض الدنيا.
وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: هو ترك كل شبهة.
وقال يحيى بن معاذ: الورع على وجهين: ورع في الظاهر وورع في الباطن. فورع الظاهر: أن لا يتحرك الإنسان إلا لله، وورع الباطن: هو أن لا تدخل قلبك سوى الله.
وقال يونس بن عبيد رحمه الله: الورع هو الخروج من كل شبهة، ومحاسبة النفس في كل طرفة عين.
فانظر لهذه التعريفات، ثم لنعرض أنفسنا وأحوالنا وأعمالنا على مفهوم الورع، أظنه في وادٍ ونحن في واد - إلا من رحم الله عز وجل -.
أنواع الورع ودرجاته:
1- واجب: وهو الإحجام عن المحارم، وذلك للناس كافة.
2- مندوب: وهو الوقوف عن الشبهات، وذلك للأواسط.
3- فضيلة: وهو الكف عن كثير من المباحات والاقتصار على أقل الضرورات، وذلك للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ) لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يغدو – أحسبه قال –: إلى الجبل فيحتطب فيبيع فيأكل ويتصدق خير له من أن يسأل الناس (.
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك... الحديث، وفي آخره: ) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش عن أمري، فقال: يا زينب، ما علمت؟ ما رأيت؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمتُ عليها إلا خيرًا. قالت: وهي التي كانت تساميني، فعصمها الله بالورع (.
فضائل الورع:
أنه أساس التقوى:
فعن عطية بن عروة السعدي الصحابي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ) لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذارًا لما به بأس (.
الورع من أعلى مراتب الإيمان وأفضل درجات الإحسان:
فعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ) يا أبا هريرة! كن ورعًا تكن أعبد الناس، وكن قنعًا تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنًا، وأحسن جوار من جاورك تكن مسلمًا، وأقل الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب (.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ) فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة، وخير دينكم الورع (.
وعن معاوية بن قرة: دخلت على الحسن وهو متكئ على سريره، فقلت: يا أبا سعيد: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: الصلاة في جوف الليل والناس نيام. قلت: فأي الصوم أفضل؟ قال: في يوم صائف. قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: أنفسها عند أهلها وأغلاها ثمنًا. قلت: فما تقول في الورع؟ قال: ذاك رأس الأمر كله.
يحقق للمؤمن راحة البال، وطمأنينة النفس:
فالورع يطهر دنس القلب ونجاسته كما يطهر الماء دنس الثوب ونجاسته وهو صون النفس وحفظها وحمايتها عما يشينها ويعيبها ويزري بها عند الله عز وجل وملائكته وعباده المؤمنين وسائر خلقه، فإن من كرمت عليه نفسه وكبرت عنده صانها وحماها، وزكّاها وعلاها، ومن هانت عليه نفسه وصغرت عنده، ألقاها في الرذائل، وأطلق عنانها وحل زمامها.