إن الحمد لله تعالى، نحمده، ونستعين به، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهدِ الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هاديَ له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فإن الدنيا مشوبة بالأكدار، مُحاطة بالأخطار، مليئة بالأضرار، الإنسان فيها مُعرّض للأذى والسوء والشر والفتنة والمحن، وإن عدنا للسبب فالغالب هو الإنسان نفسه، كما قال الله جلّ وعلا: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ (سورة الروم: ٤١)، وقال سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ (سورة الشورى: ٣٠).
لكنْ هناك صنف من الناس وعدهم الله عز وجل بوعد عظيم، هذا الصنف ما ألمت فتنة ولا محنة إلا وكان لهم المخرج، ما نزل بهم العُسر إلا مع اليُسر، ما ظهرت لهم كربة إلا وكشفها الله عز وجل، ما ألمت مُلمة فضاقت عليهم الدنيا بما رحبت إلا وجعل الله لهم فرجًا ومخرجًا؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ (سورة الطلاق: ٢-٣)، وقال سبحانه: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ﴾ (سورة الطلاق: ٤).
تعريف التقوى:
جاء الأمر بالتقوى في القرآن الكريم أكثر من ثمانين مرة، فضلاً عن فضل التقوى وشرف المتقين وجزاء المتقين.
التقوى لغة: الاتقاء وهو اتخاذ الوقاية، وهي حفظ الشيء ممّا يؤذيه، ويضرّه.
واصطلاحًا: الاحتراز بطاعة الله تعالى عن عقوبته، وقيل التقوى التحامي أي الاحتراز عن المحرمات فقط .
وقد ورد الأمر بالتقوى في القرآن بخمسة معانٍ:
الأَوّل: بمعنى الخوف والخشية: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ﴾ (سورة النساء: ١).
الثاني: بمعنى الطَّاعة، والعبادة: ﴿ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ ﴾ (سورة النحل: ٥٢).
الثالث: بمعنى ترك المعصية، والزَلَّة: ﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ (سورة البقرة: ١٨٩). أَى اتركوا خلاف أَمره.
الرّابع: بمعنى التَّوحيد والشَّهادة: ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴾ (سورة الأحزاب: ٧٠).
الخامس: بمعنى الإِخلاص، والمعرفة: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ﴾ (سورة الحجرات: ٣).
وعرّف علي بن أبي طالب التقوى فقال: هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل.
وسأل عمرُ بن الخطاب كعبًا رضي الله عنهما فقال له: ما التقوى؟ فقال كعب: يا أمير المؤمنين أما سلكت طريقًا فيه شوك؟ قال: نعم. قال: فماذا فعلت؟ فقال عمر: أشمر عن ساقي، وأنظر إلى مواضع قدمي، وأقدم قدمًا، وأؤخر أخرى، مخافة أن تصيبني شوكة. فقال كعب: تلك هي التقوى، تشمير للطاعة، ونظر في الحلال والحرام، وورع من الزلل، ومخافة وخشية من الكبير المتعال سبحانه .
وقيل: التقوى أن يُعبَد الله عز وجل فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُشكر فلا يُكفر.
حقيقة التقوى:
المتقي فوقَ المؤمنِ والطائعِ، وهوُ الذي يَتقي بصالحِ عَملِهِ وخالصِ دُعائِهِ عذابَ اللهِ تعالى، عن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه قالَ يوماً لابنِ أخيه: «يا ابنَ أخي تَرى النَّاسَ ما أكثرَهُم؟ قالَ: نعم. قال: لا خيرَ فيهم إلا تائبٌ أو تقي، ثم قال: يا ابنَ أخي ترى النَّاسَ ما أكثرَهُم؟ قلت:ُ بلى. قال: لا خيرَ فيهم إلا عالمٌ أو متعلمٌ».
فحقيقة التقوى صلاحٌ في القلبِ وحساسيةٌ في الضميرِ، وشفافيةٌ في الشعورِ، وخشيةٌ مستمرةٌ، وخوفٌ دائمٌ، وحذرٌ دائبٌ وتوقٍ لأشواكِ الطريقِ، من الرغباتِ والشهواتِ والشبهاتِ والمطامعِ والمخاوفِ والوساوسِ وغيرِهَا، وقال ابنُ المعتز: