إن الحمد لله تعالى، نحمده، ونستعين به، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهدِ الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هاديَ له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فإن الرحمة الشاملة الكاملة هي رحمة الله الغفور الرحيم، فقد عمت الكائنات جميعها فما من موجود إلا وبرحمة الله يحيا، وفي ظلال هذه الرحمة الإلهية يعيش. قال تعالى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ (سورة الأعراف: الآية ١٥٦)، وقال سبحانه: ﴿ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا ﴾ (سورة غافر: الآية ٧).
وقد دعا الإسلام إلى التحلي بهذا الخلق الكريم حتى تستقر الحياة بالناس، ويجد كل فرد في المجتمع مكانه ومكانته وحقه وكرامته.
تعريف الرحمة:
الرحمة: هي حالة وجدانية تعرض غالبا لمن به رقة القلب، وتكون مبدأ للانعطاف النفساني الذي هو مبدأ الإحسان.
الرحمة ليست إهمالا ولا تراخيا:
قال ابن القيم رحمه الله في الرحمة الحزم لا الإهمال:
«إن الرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد وإن كرهتها نفسه وشقت عليها فهذه هي الرحمة الحقيقية فأرحم الناس من شق عليك في إيصال مصالحك ورفع المضار عنك. فمن رحمة الأب بولده أن يكرهه على التأدب بالعلم والعمل ويشق عليه في ذلك بالضرب وغيره، يمنعه شهواته التي تعود بضرره ومتى أهمل ذلك من ولده كان لقلة رحمته به، وإن ظن أنه يرحمه ويرفهه ويريحه فهذه رحمة مقرونة بجهل، ولهذا كان من تمام رحمة أرحم الراحمين تسليط أنواع البلاء على العبد، فابتلاؤه له وامتحانه ومنعه من كثير من أغراضه وشهواته من رحمته به».
الإسلام دين الرحمة:
لقد كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم رحمة لقومه ورحمة للبشرية كلها من بعده، صحيح أن المبادئ التي جاءت بها هذه الرسالة كانت غريبة على الناس وواقعهم في بداية الأمر، لكنهم سرعان ما أخذوا يقتربون من هذه المبادئ، ويشعرون بعظمتها، ويعودون إليها، ويطبقونها في حياتهم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «كان محمد رحمة لجميع الناس، فمن آمن به وصدّق به سعد، ومن لم يؤمن به سلم مما لحق الأمم من الخسف والغرق».
أهمية خلق الرحمة:
إنّ للحياةِ ركائزَ تعتمِد عليها، وأسُسًا تُبنَى عليها، ومعانيَ ساميةً تُناط بها المنافِع والمصَالح. ومِن هذه المعاني العظيمةِ والصّفات الكريمة التي تسعَد بها الحياةُ ويتعاون بها الخلق الرّحمة.
فالرّحمة خلُقٌ عظيم ووَصف كريم، أُوتيَه السّعداء، وحُرِمه الأشقياء، الرّحمة ضارِبة في جُذور المخلوقات، ومختلِطة بكيان الموجوداتِ، عن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله خلق الرحمة يوم خَلَقَهَا مائة رحمة فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة وأرسل في خلقه كُلِّهِمْ رحمة واحدة فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم يَيْأَسْ من الجنة ولو يعلم المؤمن بالذي عند الله من العذاب لم يَأْمَنْ من النار».
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة كل رحمة طِبَاقُ ما بين السماء والأرض فجعل منها في الأرض رحمة فبها تعطف الوالدة على ولدها والوحش والطير بعضها على بعض، وأخر تسعًا وتسعين فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة».
والحياة لا تصلُح إلاّ بها، وأوّلُ مَن ينتفِع بالرّحمة صاحبُها في الدّنيا والآخرة، وفي الحديث عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ) أهلُ الجنّة ثلاثة: إِمام عادِل، ورجلٌ رحيمُ القلب بالمساكين وبكلِّ ذِي قربى، ورجلٌ فقير ذو عِيال متعفِّف (.
حاجة البشرية إلى هذا الخُلُق:
ألا ما أحوجَ البشريّةَ إلى هذهِ المعاني الإسلاميّةِ السّامية، وما أشدَّ افتقارَ الناسِ إلى التخلُّق بالرّحمة التي تُضمِّد جراحَ المنكوبين، وتحثّ على القيامِ بحقوقِ الوالدَين والأقربين، والتي تواسِي المستضعَفين، وتحنو على اليتامَى والعاجِزين، وتحافِظ على حقوقِ الآخرين، وتحجز صاحبَها عن دِماء المعصومين من المسلمين وغير المسلمين، وتصون أموالَهم مِن الدّمار والهلاك، وتحثّ على فِعل الخيراتِ ومجانبَة المحرّمات.
ما أحوجَ الناسَ إلى التخلُّقِ بالرّحمة في هذا العصرِ الذي غاضَت فيه الرّحمة إلاّ من شاء الله، وغلبَت فيه الأهواء، وأُعجِب فيه كلّ ذِي رأيٍ برأيه، ولم يحتكِم إلى الكتاب والسنّة، ولم يراجِع في آرائه الرّاسخين في العِلم.
من أوجه رحمة الله بعباده:
إن رحمة الله عز وجل بعباده، تأتي على أوجه، لا يمكن حصرها، ولكن سأضرب لها أمثلة، فيما يلي:
من رحمته أنْ تكفّل برزق عباده:
فتكفل سبحانه وتعالى برزق عباده، ولم يَكِل أحدًا إلى أحد، وإنما تكفّل برزق الجميع، فلا الأولاد وُكِلُوا لآبائهم، ولا الآباء لأولادهم، بل الجميع تحت فضله وكرمه وإحسانه، كما قال سبحانه: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ ﴾ (سورة العنكبوت: الآية ٦٠)، وقال سبحانه: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ (سورة هود: الآية ٦).
من رحمته أن سَخّر لنا ما في السماء والأرض جميعًا منه:
لقيام مصالح حياتنا وانتظام معيشتنا، ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ (سورة الحج: الآية ٦٥).
ومن رحمته أن بعث الرسل:
فمن أعظم أبواب رحمة الله عز وجل بخلقه أن بعث الرسل مبشّرين ومنذرين، يُعَرّفون العباد ربَّهم، ويدعون العبادَ إلى عبادة الله وإخلاص الدين لله، ويعلمونهم الحق، ويحذّرونهم من سبيل الباطل والضلال، ﴿ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا ﴾ (سورة الكهف: الآية ٥٦).