إن الحمد لله تعالى، نحمده، ونستعين به، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهدِ الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فلقد أجزلَ الله على عباده من نعمه العظيمة، وأغدق عليهم من آلائه الجسيمة، كما قال صلى الله عليه وسلم: ) إن يمين الله تعالى ملأى لا تغيضها نفقة، سحَّاء الليل والنهار (. يقسِم الأرزاقَ ويغدِق العطايا، ويرزق من يشاء بغير حساب، يبتلي عبادَه بالنعم كما يبتليهم بالمصائب، ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ (سورة الأنبياء: الآية ٣٥).
والله منعمٌ بهذا كلِّه، وفتنةُ السّرّاء أعظم من فتنة الضراء، وصاحبها يحتاج إلى صبر وشكر، والفقر والغنى مطيَّتا الابتلاء والافتتان، والصبر والشكر لازمان للعبد في أمر الربِّ ونهيه، وقضائه وقدره، والتقوى مبنيةٌ عليهما.
تعريف الشكر:
الشكر ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده، ثناءً واعترافًا، وعلى قلبه شهودًا ومحبةً، وعلى جوارحه انقيادًا وطاعة.
أو هو الاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع، وإضافة النعم إلى موليها، والثناء على المنعم بذكر إنعامه، وعكوف القلب على محبته، والجوارح على طاعته، وجريان اللسان بذكره.
الفرق بين الشكر والحمد:
الشكر كالحمد في أنهما وصف باللسان، بإزاء النعمة، إلا أن الحمد يكون باللسان، وبالقلب، بخلاف الشكر، فإنه يقع بالجوارح، والنعمة مقيدة في الشكر بوصولها إلى الشاكر، بخلافها في الحمد، ويختص الشكر بالله تعالى بخلاف الحمد.
حقيقة الشكر:
حقيقة الشكر أن ينتظم الإنسان في العلم والحال والعمل، فالعلم معرفة النعمة من المنعم والحال هو الفرج الحاصل بإنعامه، والعمل هو القيام بما هو مقصود المنعم ومحبوبه، ويتعلق ذلك العمل بـ (القلب، والجوارح، وباللسان).
أما بالقلب: فقصده الخير، وإضماره لكافة الخلق.
وأما باللسان: فإظهار الشكر لله تعالى، بالتحميدات الدالة عليه.
وأما بالجوارح: فاستعمال نعم الله تعالى في طاعته والتوقي من الاستعانة بها على معصيته .
وهذا ما قسم العلماء الشكر إليه، كما يلي:
أقسام الشكر:
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: «والشكر يتعلق بالقلب، واللسان، والجوارح».
الشكر بالقلب:
هو الاعتراف بالنعم للمنعم، وأنها منه، وبفضله. ومن الشكر بالقلب: محبة الله على نعمه.
قال الشاعر:
لمؤتيكها حبًّا فليس بشاكرعلى كل ما تهوى فلست بصابرِ إذا كنت تردد على كل نعمةإذا أنت لم تؤثر رضا الله وحده
الشكر باللسان:
الثناء بالنعم، وذكرها، وتعدادها، وإظهارها، قال الله تعالى: ﴿ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾ (سورة الضحى: الآية ١١). وكان عمر بن عبد العزيز يقول في دعائه: «اللهم إني أعوذ بك أن أبدل نعمتك كفرًا، أو أن أكفرها بعد معرفتها، أو أنساها فلا أثني بها».
وقال فضيل بن عياض رحمه الله: «كان يقال: من شكر النعمة التحدّث بها». وجلس ليلة هو وابن عيينة، يتذاكران النعم إلى الصباح!!
الشكر بالجوارح:
ألا يُستعان بالنعم، إلا على طاعة الله عز وجل، وأن يحذر من استعمالها في شيء من معاصيه، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ (سورة سبأ: الآية ١٣). عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ) على كل مسلم صدقة، قالوا: فإن لم يجد، قال: فيعمل بيده، فينفع نفسه، ويتصدق، قالوا: فإن لم يستطع، أو لم يفعل؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف، قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: فليأمر بالمعروف، قالوا: فإن لم يفعل، قال: فليمسك عن الشر فإنه صدقة (.
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ) خلق الله ابن آدم على ستين وثلاثمائة مفصل، فمن ذكر الله، وحمد الله، وهلل الله، وسبح لله، وعزل حجرًا عن طريق المسلمين، أو عزل شوكة، أو عزل عظمًا، أو أمر بمعروف، أو نهى عن منكر، عدد تلك الستين والثلاثمائة السلامى، أمسى من يومه، وقد زحزح نفسه من النار (.
وقال بعض السلف في قوله تعالى (واعملوا آل داود شكرا): «لما قيل لهم هذا، لم تأت عليهم ساعة إلا وفيهم مُصَلّ».