مقدمة:
إن الجدال من الأمور التي يجب على كل مسلم بل على كل إنسان ألا يتصف بها، ونعني بذلك الجدال بالباطل الذي أساسه طمس الحق وإحقاق الباطل، أو الذي مقصوده سَلْبُ حَقٍّ وانتزاعُه من صاحبِه، ونشرُ ظلم، وإحداث قطيعة، فكثرة الجدال ربما تؤدي إلى عواقب غير محمودة، وذلك من البغضاء والتشاحن بين المتجادلين، والشريعة السمحاء حريصة كل الحرص على عدم وقوع ذلك بين أفراد مجتمعها فهي شريعةُ تأليفِ القلوب ويتضح ذلك من القرآن الكريم حيث قال المولى جلا وعلا: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ (1) .
وقبل الخوض في الحديث عن هذا الأمر نود أن نتعرف على معنى الجدال والمراء وكيف عرفه اللغويون في معاجهم.
معنى الجدال :
قيل: إن الجدل مأخوذ من الجَدَالَةِ، وهي وجه الأرض، وذلك لأن كل واحد من الخصمين يريد أن يُلْقِيَ صاحبَه عليها. يقال: طعنه فَجَدَّلَهُ، أي: رماه بالأرض.
وقال في المصباح المنير: جادَل مُجادَلة وجِدالا: إذا خاصم بما يشغل عن ظهور الحق ووضوح الصواب، هذا أصله، ثم استعمل على لسان حملة الشرع في مقابلة الأدلة لظهور أرجحها. وهو محمود إن كان للوقوف على الحق وإلا فمذموم .اهـ. وجاء تعريفه في بعض المعاجم بأنه شدَّة الخصومة، أو هو شدَّة الخصام ومراجعة الكلام.
معنى المراء :
قيل: إن المراء هو الجدال نفسه. وقيل: المراء طعن في كلام الغير لإظهار خلل فيه. وذكر أبو هلال العسكري في كتابه الفروق اللغوية أن الجدال والمراء بِمعنًى، غير أن المراء مذموم؛ لأنه مخاصمة في الحق بعد ظهوره، وليس كذلك الجدال.
ولقد جاء ذكر الجدال والمراء في مواطن متعددة من القرآن الكريم نذكر على سبيل المثال منها قوله تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾(2) – وهذا من الْمَنهِيِّ عنه – وقوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ (3) وقوله تعالى: ﴿فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا﴾ (4) – وهذا مما لا شيء فيه بل هو من النوع المحمود – إلى غير ذلك من الآيات التي لا يتسع المجال لذكرها الآن ولكن سنوردها تباعا كلٌّ في موضعه، والتي تحدثت عن هذه المادة باشتقاقتها المختلفة، ونرى من خلالها أن هذه الصفة قد ذُكِرت على سبيل الذَّم في أغلب المواطن القرآنية على الرغم من أنها قد تكون محمودة في بعض الأحيان وذلك إن كانت للوقوف على الحق كما رأينا من خلال الآيتين الكريمتين السابقتين وكما سبق في التعريف السالف ذكره.
مضار الجدال والمراء :
الجدال سبب التباغض :
إن الشريعة الإسلامية حريصة كل الحرص على أن تسود المحبة بين أفراد مجتمعها وعلى أن يحترم كل منهم رأي الآخر، لا أن يسود التباغض والتفرق والخلاف بين أفراد مجتمعها، والجدال مما لا شك فيه يعد من الأسباب الرئيسة في نشوب مثل هذه الأمور والتي أمر الشرع الحكيم بتركها والابتعاد عنها، فنجد الشريعة الإسلاميه حريصة كل الحرص على سد الذرائع الموصلة إلى هذه الأسباب والتي من شأنها زعزعة وحدة الأمة وبث روح التباغض والشحناء، ويتضح ذلك من ترغيب النبي صلى الله عليه وسلم في ترك المراء والجدال حتى ولو كان الحق معك حيث قال صلى الله عليه وسلم: «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِى رَبَضِ الْجَنَّةِ (5) لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِى وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِى أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ» (6) .
هذا الترغيب النبوي في ترك المراء إنما هو نابع لأجل المصلحة العامة التي يرجوها لأمته صلى الله عليه وسلم، فهو المبلغ عن ربه وهو أعلم الناس به سبحانه وتعالى وبمراده فيما يصلح الناس في معاشهم ومعادهم، فقد تنقطع العلاقة المتينة الضاربة في الزمن بسبب جدال عقيم، داخلته حظوظ النفس وبتغرير من الشيطان، فكثرة الجدال لا شك تؤدي إلى تنافر كُلِّ طرف مِن صاحبِه، وهذا التنافر بدوره يؤدي إلى الشحناء والقطيعة اللتين نهى عنهما النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال صلى الله عليه وسلم: «لا تَبَاغَضُوا، ولا تَحَاسَدُوا، ولا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، ولا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ» (7) .
يا لروعة الإسلام لو امتثل الناس أوامره واجتنبوا نواهيه، ما أجمل المجتمع الذي يسوده الوئام والحب والتعاون، لا شك أن هذا المجتمع المتضافر المتعاون غير المتباغض سيسود على كل مجتمع، بل ويكون منارة تهتدي بها كل المجتمعات الأخرى، وهذا ما كان عليه أغلب السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين، كانوا لا يدعون مسلكا للشيطان إلا وقاموا بسده والحيلولة دون الوصول إليه، وهذا هو الذي وَطَّد أركان دولتهم وساعد في اتساع رقعتها، ومن أهم العوامل التي ساعدت على بث تلك الروح بينهم حرصهم الشديد على وحدة الأمة، وكانوا يعلمون أنه بالجدال والنزاع والخلاف لا وحدة لدولتهم ولا محبة بينهم، وهم يعلمون كل العلم بأن مثل هذه الأمور ستكون معول هدم في صرح الأمة، وما وقع من بعضهم في مثل هذه الأمور لا شك حذرهم منه النبي صلى الله عليه وسلم وعاب على مَن فعل ذلك منهم وبين خطره، فكان الامتثال لأمره سريعا خوفا من العاقبة غير المحمودة.
واعلم أيها الأخ الكريم أن المراء قبيح جدا؛ لأن فيه إيذاء للمخاطب وتجهيلا له وفيه ثناء على النفس وتزكية لها بمزيد الفطنة والعلم، ثم هو مُشَوِّش للعيش، فإنك لا تُماري سفيها إلا ويؤذيك، ولا حليما إلا ويَقْلِيك.
فيجب على كل مسلم أن يتخلى عن الجدال والمراء بالباطل وأن يذعن للحق متى تبين له حتى يسود المجتمع المحبة وروح التعاون وحتى يكون المسلمون على قلب رجل واحد لا تزعزعهم الأهواء.
ولله در الشاعر إذ يقول:
وَاحْذَرْ مُجَادَلَةَ الرِّجَالِ فَإِنَّها***تَدْعُو إِلَى الشَّحْنَاءِ وَالشَّنَآنِ
وَإِذَا اضْطُرِرْتَ إِلَى الجِدَالِ وَلَمْ تَجِدْ*** لَكَ مَهْرَبًا وَتَلاقَتِ الصَّفانِ
فَاجْعَلْ كِتَابَ اللَّهِ دِرعًا سَابِغًا***والشَّرْعَ سَيْفَكَ وَابْدُ فِي المَيْدَانِ
الجدال بالباطل صفة غير المسلم :
إن الجدال بالباطل لا يعد من صفات المسلمين، وإنما هو من صفات المعاندين المكذبين، وذلك لأن المسلم إذا تبين له الحق أذعن له وانقاد، فمتى تبين له وجه الصواب أخذ به تنفيذا لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم حيث أمرا بطاعتهما؛ لأن المسلم الذي ارتضى الله ربا ومحمدا صلى الله عليه وسلم رسولا وجبت عليه الطاعة دون منازعة ودون جدال قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾(8).
إنه لا يحل لمن يؤمن بالله إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يختار مِن أمر نفسه ما شاء، بل يجب عليه أن يذعن للقضاء، ويوقف نفسه تحت ما قضاه الله واختاره له، نعم يجب على كل مسلم أن يبادر بطاعة الله سبحانه وتعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعليه أن يمتثل أمرهما دون جدال، وكيف يجادل في أمرٍ الله أعلم به، فهو سبحانه وتعالى أعلم بما يصلح الناس في دنياهم وأخراهم، فهذا مما لا مجال للعقل فيه، بل الأولى التسليم والانقياد، ولقد جاء الأمر بطاعتهما في مواطن متعددة من القرآن الكريم وجاء النهي عن التنازع والذي هو سبب في الفشل وذهاب القوة قال الله تبارك وتعالى : ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ (9) .
لقد أمر الله تبارك وتعالى المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله فيما يرشدهم إليه، ونهاهم عن التنازع وهو الاختلاف في الرأي فإن ذلك ينتج عنه الفشل وذهاب الريح، وهي القوة والنصر، كما يقال : الريح لفلان إذا كان غالبا في الأمر. ويعد الجدال العامل الأول في نشوب التنازع والخلاف بين أفراد المجتمع الواحد، فيجب نبذه والتخلي عنه حتى يتحقق هذا المطلب الأسمى وهو عدم الفشل وذهاب القوة والنصر.
إن الجدال بالباطل لأمر خطير وعاقبته وخيمة، وكيف لا فبه يطفأ نور الحق ويعم ظلام الباطل، وبه يصير الإنسان مشابها لأهل الشرك والضلال؛ لأن من شأنهم وعادتهم الجدال بالباطل بعد سطوع نور الحق، قال الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾ (10) فهؤلاء بلغوا من الكفر والعناد أنهم جاءوا مجادلين، لم يكتفوا بمجرد عدم الإيمان بل يقولون: إنْ هذا إلا أساطير الأولين. فعلى كل مسلم أن يسأل نفسه هل يريد أن يكون مع هؤلاء المعاندين وهل يريد أن يتصف بأوصافهم؟! لا شك أن الإجابة بالنفي، وما دام الأمر كذلك فعلى كل منا أن يكون من الذين إذا تبين لهم الحق قالوا: سمعنا وأطعنا.
لقد ذم القرآن الكريم الجدال بالباطل وحذر منه أشد التحذير، وبين أنه صفة الكافرين المعاندين؛ وذلك لأن فيه إرادة لإزالة الحق، قال الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز: ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا﴾ (11) ومعنى يدحضوا به الحق: أي يزيلوه ويبطلوه.
وهذا الذم مما لا ينكره عاقل فمَن مِن الناس يحب هذه الصفة – وهي الجدال بالباطل – والتي من شأنها طمس الحقائق وتصوير الباطل في صورة الحق، ولقد أنكر الله على أقوام فِعْلهم مثلَ هذه الأمور، والتي هي تخليط الحق بالباطل وكتمان الحق حيث قال: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾(12).
فهذا نوع من الجدال فإلباس الحق بالباطل صورة من صوره المذمومة فهم يعلمون الحق لكنهم ينكرونه ويقولون بغيره وهذا من الجدل المذموم. ومن أقوالهم المأثورة: الاختلاف يفضي إلى الجدال والجدال إلى الجحود وتلبس الحق بالباطل.
الجدال يفضي إلى الظلم:
إن الجدال بالباطل يفضي إلى الظلم، ظلم الإنسان لنفسه وذلك لمجانبته الحق والصواب مما يعرضه لعقاب الله وسخطه، وظلم الإنسان لأخيه الإنسان وهذا فيه من المفاسد ما لا تحمد عقباه وهي غضب الله والبعد عن رضوانه سبحانه وتعالى هذا في الآخرة، أما في الدنيا فآثاره وخيمة وذلك لِمَا فيه من تفويت المصلحة لصاحب الحق، مما يؤدي إلى التباغض والكره، وربما أفضى ذلك إلى الشجار والمنازعات بين المسلمين وهذا مما لا شك فيه لا يُرضِي الله تبارك وتعالى، فالظلم قد حرمه الله على نفسه وجعله بين عباده محرما وذلك كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن رب العزة سبحانه وتعالى حيث قال: «يَا عِبَادِى إِنِّى حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِى وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا» (13).
إذن لا شك أن الجدال في الباطل سيوقع المرء في الظلم؛ لأن فيه انتزاعا لحق الغير وخاصة إذا أوتي المرء فصاحة في اللسان وطلاقة، بحيث يكون هو الأقوى على إظهار الحق في جانبه في حين أن الأمر ليس كذلك، ولكنه غلب بفصاحته وحسن جداله، فانتزع حقا ليس له، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر حيث قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَىَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِى لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْهُ فَمَنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلاَ يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ»(14) .
ومعنى الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الناس يختصمون إليه لفض المنازعات فيما بينهم فيأتيه هذا يريد أن يقضي لصالحه وهذا لصالحه، فبين صلى الله عليه وسلم أنه قد يكون أحد الخصمين ألحن بحجته أي: أبلغ وأفصح وأعلم في تقرير مقصوده وأفطن ببيان دليله وأقدر على البرهنة على دفع دعوى خصمه بحيث يُظن أن الحق معه، وهو في الحقيقة كاذب، لكنه بما أوتي من الجدل والقدرة على قلب الحقائق، وبما قدم من البراهين الكاذبة قضي له، لكن عليه ألا يفرح بذلك حيث بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه إنما قطع له قطعة من النار.
فإذا كان الرجل ذا قدرة عند الخصومة سواء كانت خصومتُه في الدِّين أو في الدنيا على أن ينتصر للباطل، ويخيل للسَّامع أنَّه حقٌّ، ويوهن الحقَّ، ويخرجه في صورة الباطل، كان ذلك مِنْ أقبحِ المحرَّمات، ومن أخبث خصال النفاق.
إن الجدال بعد تبين الحق صفة مذمومة يجب على كل إنسان أن يتخلى عنها بل إن مجرد الجدال لا خير فيه وانظر كيف وصف الله سبحانه وتعالى الإنسان بأنه أكثر المخلوقات جدلا، وهذا الوصف على سبيل الذم لا على سبيل المدح حيث قال جل وعلا: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾(15) ، في هذه الآية دليل على كثرة الجدال في الإنسان وحبه له، لسعة حيلته وقوة ذكائه، واختلاف نزعاته وأهوائه.
وعن على بن أبى طالب أن النبى صلى الله عليه وسلم طَرَقَه وفاطمةَ فقال: «أَلاَ تُصَلُّونَ». فقلتُ: يا رسول الله، إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قلت له ذلك، ثم سمعته وهو مُدْبِر يضرب فَخِذه ويقول: «وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْء جَدَلاً»(16).
ففي هذا الحديث دليل على أن الجدل صفة غالبة على ابن آدم فإنه لما أمرهم صلى الله عليه وسلم بقيام الليل فاعتَلَّ علي رضي الله عنه بالقدر، وأنه لو شاء الله لأيقظنا، علم النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ هذا ليس فيه إلا مجرد الجدل الذي ليس بحق، فقال: «وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْء جَدَلاً». وفيه فضيلة لعلي رضي الله عنه حيث لم يمنعه ذلك من أن يحدث بالحديث، وذلك ليتعلم المسلم وألا يقع في مثل هذا الأمر.
إن الإنسان كثير المجادلة والمخاصمة والمعارضة للحق بالباطل، إلا من هدى اللَّه وبَصَّره لطريق النجاة، فكلما تخلى الإنسان عن هذه الصفة كلما كان أقرب إلى طاعة ربه، بل إن في ترك الجدال ترويضا للنفس على الصبر وتحمل الآخرين وفي تركه تدريب على الطاعة، لأن من صفة المسلم الانقياد لأوامر ربه والإذعان لها كما سبق أن بَيَّنا.
الجدال علامة نقص الإيمان :
إن الجدال قد يعد دليلا على ضعف الإيمان وذلك لأن المجادل قد يقصد بجدله إبراز سعة علمه، أو قد يريد به إظهار فصاحته، أو يريد أن ينال بجداله إعجاب الناس ليقال عنه إنه عالم، ولا يريد بذلك نشر علم أو إظهار حق فهذا من قبيل الرياء والسمعة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم خطورة ذلك حيث قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ وَيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، وَيَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ جَهَنَّمَ » (17) .
فيجب على كل مسلم أن يتنبه لمثل هذه الأمور حتى لا يقع تحت وعيد الله ويجب عليه أن يخلص عمله لله تعالى مبتغيا به وجهه سبحانه وتعالى، لا أن يبتغي بعمله نوالا أو تزكية أو ثناء، فما عند الله خير وأبقى، فالإنسان الذي يجادل للفوز بمتاع الدنيا قد آثر الفاني على الباقي وهو ثواب الله والفوز بنعيمه يوم القيامة.
الجدال سبب في فوات الخير :
إن الجدال كما مر بنا سابقا قد يكون سببا للخلاف ومن ثَمَّ يؤدي ذلك إلى التنازع والذي بدوره قد يوقع الإنسان في كثير من المخالفات الشرعية التي يكون سببها زوال نعمة من النعم أو زوال خير، نعم إن بالذنوب يحرم الإنسان الخير والرزق قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ وَلاَ يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلاَّ الدُّعَاءُ وَلاَ يَزِيدُ فِى الْعُمْرِ إِلاَّ الْبِرُّ» (18) .
لا شك أن بالجدال قد يقع الإنسان في المعصية والتي من شأنها زوال النعم وغضب الله وسخطه، فعلى كل مسلم الحذر كل الحذر من عاقبة الجدال لإنه لا شك سيفضي إلى التنازع والذي بدوره يفضي إلى المساببة التي لا طائل من ورائها إلا اكتساب الآثام والمعاصي التي يُحْرَم بسببها الإنسان الخير، وفي ذلك دليل من السنة النبوية المطهرة وذلك ما روي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يخبر بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين فقال: «إِنِّي خَرَجْتُ لأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَإِنَّهُ تَلاَحَى فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمُ الْتَمِسُوهَا فِى السَّبْعِ وَالتِّسْعِ وَالْخَمْسِ» (19) .
قال ابن رجب في شرحه على البخاري: والتلاحي قد فسر بالسباب، وفسر بالاختصام والمماراة من دون سباب، ويؤيد هذا أنه جاء في رواية في صحيح مسلم: فجاء رجلان يحتقان. أي يطلب كل واحد منهما حقه من الآخر ويخاصمه في ذلك، وإنما رجا النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون ذلك خيرا؛ لأن إبهام ليلة القدر أدعى إلى قيام العشر كله، أو أوتاره في طلبها، فيكون سببا لشدة الاجتهاد وكثرته، ولكن بيان الليلة ومعرفتهم إياها بعينها له مزية على إبهامها، فرُفِعَ ذلك بسبب التلاحي؛ فدل هذا الحديث على أن الذنوب قد تكون سببا لخفاء بعض معرفة ما يحتاج إليه في الدين.
الجدل سبب الضلال :
إن الجدال كما بينا سابقا له من المخاطر والتي بسببها قد يضل الإنسان، فالذي يجادل لمجرد الجدل دون الانصياع لدليل أو برهان إنما هو مكابر معاند، وربما أدى به ذلك إلى الخروج عن المنهج القويم فيضل بما أوتيه من جدل، فالجدل بغير دليل ولا قصد صحيح يؤدي إلى الابتعاد عن الصراط المستقيم ودليل ذلك ما رواه أبو أمامة رضي الله عنه حيث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلاَّ أُوتُوا الْجَدَلَ» (20). ثم تلا هذه الآية: ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ (21).
ومن الأدلة على أن الجدل سبب الضلال أو قد يفضي إلى الضلال قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ (22) .
ولا يفوتنا أن نختم كلامنا عن خطورة الجدال بحديث جليل يحذر من عاقبة الجدال وأنه بسببه قد ينال العبد غضب الله تعالى أو قد يصير من أبغض الخلق عنده حيث قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَلَدُّ الْخَصِمُ» (23) أي الشديد الخصومة، وهذا الشخص الذي يبغضه الله هو الذي يقصد بخصومته مدافعة الحق ورده بالأوجه الفاسدة والشبه الموهمة، وأشد ذلك الخصومة في أصول الدين، كما يقع لأكثر المتكلمين المعرضين عن الطرق التي أرشد إليها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسلف أمته.
يجب على كل مسلم بعد هذا العرض الموجز أن يكون على بصيرة من أمره وأن يعلم تمام العلم أن الشرع ما نهى عن شيء إلا وفيه المصلحة والخير، فعلينا أن نتحلى بخلق القرآن الكريم وبسنة سيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ولا يكون جدالنا إلا لإظهار حق ونشر فضيلة ودفاع عن دين وأن يكون ذلك برفق ولين دون نزاع وخلاف لقد عرفنا القرآن الكريم ضوابط المجادلة وأسلوبها ويتضح ذلك من قوله تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (24) .
وقال في موضع آخر ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (25).
ليكن دعاؤك للخلق مسلمهم وكافرهم إلى سبيل ربك المستقيم المشتمل على العلم النافع والعمل الصالح كُلٌّ على حسب حاله وفهمه وقبوله وانقياده، ومن الحكمة الدعوة بالعلم لا بالجهل والبداءة بالأهم فالأهم، وبالأقرب إلى الأذهان والفهم، وبما يكون قبوله أتم، وبالرفق واللين وبما تشتمل عليه الأوامر من المصالح وتعدادها، والنواهي من المضار وتعدادها أو بذكر ما أعد الله للطائعين من الثواب العاجل والآجل وما أعد للعاصين من العقاب العاجل والآجل، فإن كان المدعو يرى أن ما هو عليه حق فعليه أن يجادل بالتي هي أحسن، وهي الطرق التي تكون أدعى لاستجابته عقلا ونقلا، ومن ذلك الاحتجاج عليه بالأدلة التي كان يعتقدها، فإنه أقرب إلى حصول المقصود، وألا تؤدي المجادلة إلى خصام أو مشاتمة تذهب بمقصودها، ولا تحصل الفائدة منها بل يكون القصد منها هداية الخلق إلى الحق لا المغالبة ونحوها.
———————
المراجع :
1)سورة آل عمران: الآية 103.
2)سورة البقرة: الآية: 197 .
3)سورة هود: الآية: 32.
4)سورة الكهف: الآية: 22 .
5)ربض الجنة: أي أسفلها.
6)أخرجه أبو داود (4/253 ، رقم 4800) . وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 3/6 .
7)أخرجه البخاري (5/2253 ، رقم 5718) ، ومسلم (4/1983 ، رقم 2559) .
8)سورة الأحزاب: الآية: 36 .
9)سورة الأنفال: الآية: 46 .
10)سورة الأنعام: الآية: 25.
11)سورة الكهف: الآية: 56 .
12)سورة آل عمران: الآية: 71 .
13)أخرجه مسلم (4/1994 ، رقم 2577) .
14)أخرجه البخاري (2/952 ، رقم 2534) ، ومسلم (3/1337 ، رقم 1713) .
15)سورة الكهف: الآية: 54.
16)أخرجه البخاري (6 /2716 ، رقم 7027) ، ومسلم (1/537 ، رقم 775).
17)أخرجه ابن ماجه (1/96 ، رقم 260) . وهو صحيح لغيره انظر صحيح الترغيب والترهيب 1/26 .
18)أخرجه أحمد (5/277 ، رقم 22440) ، والنسائى فى الكبرى كما فى التحفة للحافظ المزى (2/133 ، رقم 2093) ، وابن ماجه (2/1334 رقم 4022) ، والرويانى (1/420 رقم 643) ، وابن حبان (3/153 رقم 872) ، والطبرانى (2/100 رقم 1442) ، والحاكم (1/670 ، رقم 1814) وقال : صحيح الإسناد.
19)أخرجه البخاري (1/27 ، رقم 49).
20)أخرجه أحمد (5/252 ، رقم 22218) ، والترمذى (5/378 ، رقم 3253) وقال : حسن صحيح . وابن ماجه (1/19 ، رقم 48).
21)سورة الزخرف: الآية: 58 .
22)سورة الحج: الآيتان: 8 ، 9 .
23)أخرجه البخاري (2/867 ، رقم 2325) ، ومسلم (4/2054 ، رقم 2668) .
24)سورة العنكبوت: الآية: 46 .
25)سورة النحل: الآية: 125 .
————————
خاص بالسكينة:الشيخ محمد الطايع
رابط الموضوع : http://www.assakina.com/awareness-net/internet-etiquette/41576.html#ixzz3KfdZF86L