المحور الثالث
الغلو مظاهره وأسبابه مظاهر الغلو في الاعتقاد والعمل والحكم على الناس
للدكتور عبد السلام بن برجس العبد الكريم [ص-137] الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على رسوله . أما بعد : فإن من مظاهر الغلو : الغلو في الاعتقاد ، والعمل ، والحكم على الناس .
أما الغلو في الاعتقاد : فهو مجاوزة الحد فيما شرع الله تعالى من الأمور الاعتقادية . فإن الله تعالى إنما أنزل الكتاب وبعث المصطفى صلى الله عليه وسلم ليكون الدين كله لله ، والغالي لا يكتفي بما أنزل تعالى من الشريعة الكاملة ، بل يسعى إلى الزيادة على ما شرع الله ، ومخالفة ما قصده الشارع من التيسير على المكلفين إلى التشديد على نفسه وعلى غيره ، ونسبة ذلك إلى شرع الله تعالى .
والغلو في الاعتقاد أخطر أنواع الغلو ؟ ذلك بأن الاعتقاد درجة عالية من جزم القلب بما فيه من رأي أو فكر أو شرع ، فأصعب ما يكون انتزاعها ؛ لأن صاحبها يدافع عنها كما يدافع عن دمه وماله وعرضه ، ومعلوم أن الغالي إنما يعتقد ما يتوهم أنه شرع الله وليس كذلك ، بل إنما يعتقد فكرا أو رأيا مصدره الهوى .
ومن هنا كان تحذير علماء المسلمين من أهل البدع والأهواء أكثر من تحذيرهم من أهل المعاصي والفسوق . فالضرر الحاصل بالغلو في الاعتقاد أعظم من الضرر الحاصل بالغلو في العمل .
ومن أبرز الأمثلة على هذا النوع من الغلو : غلو الخوارج وهم الفرقة المعروفة في جسم الأمة الإسلامية منذ العصر الأول : إنهم فئة قادهم الغلو في الحكم على صاحب المعصية إلى إلحاقه بمن وقع في الكفر بالله عز وجل ، فكان هذا الغلو الاعتقادي دافعا لهم إلى سلسلة من الجرائم الكبرى بحق الأمة الإسلامية :
( أ ) حيث دفعهم إلى تكفير حكام المسلمين بمجرد الوقوع في المعاصي .
( ب ) ثم تكفير عامة من لم يقنع بقولهم هذا من المسلمين ، فكفروا المجتمعات المسلمة .
( ج ) فقاتلوا المسلمين ، وخرجوا على حكامهم .
وهكذا صور كثيرة من الظلم والاعتداء وإيهان قوة المسلمين ، ارتكبها هؤلاء لأجل غلوهم في دين الله تعالى .
وقد كشف الحديث النبوي الشريف هذا الجانب السيئ في هذا الاتجاه ، ففي صحيح ابن حبان عن جندب البجلي أن حذيفة حدثه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إِنَّ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ حَتَّى إِذَا رُئِيَتْ بَهْجَتُهُ عَلَيْهِ وَكَانَ رِدْءًا لِلْإِسْلَامِ ، غَيَّرَهُ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ ، فَانْسَلَخَ مِنْهُ ، وَنَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ، وَسَعَى عَلَى جَارِهِ بِالسَّيْفِ ، وَرَمَاهُ بِالشِّرْكِ " قَالَ : قُلْتُ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، أَيُّهُمَا أَوْلَى بِالشِّرْكِ ، الرَّامِي أَمِ الْمَرْمِيُّ ؟ قَالَ : [ص-138] " بَلِ الرَّامِي .
فهذه الصورة تكشف الغلو الاعتقادي ، كيف يبدأ صاحبه ؟ ومن أين يأتيه الشيطان ؟ وما يترتب على غلوه من المفاسد العظيمة : حيث قتل النفس التي حرم الله ، وخيانة الجار ، وزعزعة أمن الدولة المسلمة . كل ذلك يشرح نظريا شؤم الغلو الاعتقادي ، ويبين عموم ضرره .
ومن هنا جاء كتاب الله تعالى وجاءت السنة النبوية بالتحذير الشديد من الغلو ، وبيان عواقبه الوخيمة في أمور الدين وأمور الدنيا . ففي مسند الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة جمع : هَلُمَّ الْقُطْ لِي ، فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ ، هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ ، فَلَمَّا وَضَعَهُنَّ فِي يَدِهِ ، قَالَ : " نَعَمْ ، بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ . وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " اقتضاء الصراط المستقيم " هذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال ، وسبب هذا اللفظ العام : رمي الجمار ، وهو داخل فيه مثل : الرمي بالحجارة الكبار ، بناء على أنه أبلغ من الصغار ، ثم علله بما يقتضي مجانبة هدي من كان قبلنا ، إبعادا عن الوقوع فيما هلكوا به . وأن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه من الهلاك . ا هـ .
وغلو أهل الكتاب من النصارى في دينهم واضح ، حيث نص الله تعالى عليه في قوله (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ )(سورة النساء الآية 171 ) .
فهنا غلو منهم في الاعتقاد ، ساقهم إليه الشيطان ، حيث زين لهم عبادة المسيح من دون الله تعالى في هيئة محبة الأنبياء وتعظيمهم ، وقد أبطل الله هذه الشبهة بأدلة متعددة ، كقوله تعالى (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ )(سورة المائدة الآية 75 ) .
ومثل فعل النصارى هذا ؛ فعل اليهود مع العزير ، وفعل بعض فرق هذه الأمة مع علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، ولهذا حرقهم علي رضي الله عنه ، واتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتلهم ، واختار ابن عباس أن يقتلوا [ص-139] بالسيف من غير تحريق ، وهو قول أكثر العلماء .
وقد قاد الغلو النصارى إلى ابتداع البدع في دينهم ، والتعبد لله تعالى بها ، كما قال تعالى ( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا)(سورة الحديد الآية 27)
فكل من غلا من هذه الأمة ، واتبع هواه وحكمه في دين الله ، أو زاد على ما شرعه الله ففيه شبه من أهل الكتاب ، ومن تشبه بقوم فهو منهم . ومآله إلى الهلاك في الدنيا والآخرة ؛ لأن الغلو هو سبب هلاك من مضى من أهل الكتاب باختلافهم وتقاتلهم وتباغضهم ، وفي الآخرة هم الأخسرون .
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ " قالها ثلاثا . رواه مسلم في صحيحه عن ابن مسعود .
قال الخطابي في " معالم السنن " المتنطع : المتعمق في الشيء ، المتكلف للبحث عنه على مذاهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم ، الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم . ا هـ .
فهذا خبر عن هلاك من وقع في التنطع الذي هو ضرب من الغلو في الكلام ونحوه ، فدل على أن عقوبة الغالين من المتقدمين والمتأخرين هو : الهلاك ، ولهذا لا يقوم لأهل الغلو دولة ، ولا تجتمع الأمة عليهم ، كما قال الإمام وهب بن منبه - رحمه الله تعالى - في الخوارج كنموذج للغلو ، عند مناصحته لمن وقع في رأيهم : ( فوالله ما كانت للخوارج جماعة قط إلا فرقها الله على شر حالاتهم ، وما أظهر أحد منهم قوله إلا ضرب الله عنقه ، وما اجتمعت الأمة على رجل قط من الخوارج .
ولو أمكن الله الخوارج من رأيهم لفسدت الأرض ، وقطعت السبل ، وقطع الحج إلى بيت الله الحرام ، وإذن لعاد أمر الإسلام جاهلية ، حتى يعود الناس يستعينون برءوس الجبال كما كانوا في الجاهلية ، وإذن لقام أكثر من عشرة أو عشرين رجلا ليس منهم رجل إلا وهو يدعو إلى نفسه بالخلافة ، ومع كل رجل منهم أكثر من عشرة آلاف يقاتل بعضهم بعضا ، ويشهد بعضهم على بعض بالكفر حتى يصبح الرجل المؤمن خائفا على نفسه ودينه ودمه وأهله وماله ، لا يدري أين يسلك أو مع من يكون .
غير أن الله بحكمه وعلمه ورحمته نظر لهذه الأمة فأحسن النظر لهم ، فجمعهم وألف بين قلوبهم على رجل واحد ليس من الخوارج . . ) الخ .
وكل ما ذكره هذا الإمام واقع ملموس في هذه الفئة ومن نحا نحوها في الغلو ، ذلك بأن كل خير [ص-140] يحصل للأمة إنما هو بسبب اجتماعها على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن هنا فسر حبل الله تعالى الوارد قي قوله جل وعلا ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)(سورة آل عمران الآية 103) بالجماعة في قول ابن مسعود رضي الله عنه وغيره .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : وأهل الإثبات من المتكلمين مثل الكلابية والكرامية والأشعرية أكثر اتفاقا وائتلافا من المعتزلة ، فإن في المعتزلة من الاختلافات وتكفير بعضهم بعضا ، حتى ليكفر التلميذ أستاذه ، من جنس ما بين الخوارج ، وقد ذكر من صنف في فضائح المعتزلة من ذلك ما يطول وصفه .
ولست تجد اتفاقا وائتلافا إلا بسبب اتباع آثار الأنبياء من القرآن والحديث وما تبع ذلك ، ولا تجد افتراقا واختلافا إلا عند من ترك ذلك ، وقدم غيره عليه ، قال تعالى : ( وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ )(سورة هود الآية 118-119)
فأخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون ، وأهل الرحمة هم أتباع الأنبياء قولا وفعلا ، وهم أهل القرآن والحديث من هذه الأمة ، فمن خالفهم في شيء فاته من الرحمة بقدر ذلك . . ا هـ .
ومن هذا المنطلق جعل أهل العلم : من علامات المبتدعة : الغلو ، فليس مع من ركبه أي حجة ، ومن عباراتهم في ذلك ، ما سطره العلامة الشيخ سليمان بن سحمان في كتابه الذي رفض فيه الغلو ، وأنكر على أهله ، وفند ما يظنونه حجة لهم ، وهو كتاب : " منهاج أهل الحق والاتباع في مخالفة أهل الجهل والابتداع " قال رحمه الله : ومن علامات صاحب البدعة : التشديد ، والغلظة ، والغلو في الدين ، ومجاوزة الحد في الأوامر والنواهي ، وطلب ما يعنت الأمة ويشق عليهم ويحرجهم ويضيق عليهم في أمر دينهم ، وتكفيرهم بالذنوب والمعاصي إلى غير ذلك مما هو مشهود مذكور من أحوال أهل البدع " . ا هـ .
وقد كشف الشيخ ابن سحمان ضلال طائفة من الغالين في كتابه هذا بما يحسن تلخيصه ، إذ البلية تتكرر بمثل هذه الطائفة في كل زمن .
وقد قام الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن رحمه الله بمنع هؤلاء الغالين من الذهاب إلى البادية للدعوة مما أثار حفيظة بعضهم ، فذم الولاية ، وذم العلماء ، قال الشيخ ابن سحمان رحمه الله قد كان من المعلوم عند الخاصة والعامة أن الذي منع هؤلاء من الذهاب إلى هذه الأماكن المذكورة في السؤال هو الإمام - أعزه الله بطاعته وأحاطه بحياطته - لأمرين :
أحدهما : أنهم افتاتوا على منصب الإمامة ، فذهبوا إلى البادية من رعيته ومن تحت يده وفي ولايته ، من غير إذن منه ، ولا أمر لهم بذلك . وقد كان من المعلوم أن الإمام هو الذي يبعث العمال والدعاة إلى دين الله .
الثاني : ما بلغه عنهم من الغلو والمجازفة والتجاوز للحد في المأمورات والمنهيات وإحداثهم في دين [ص-141] الله ما لم يشرعه الله ولا رسوله ، فمن ذلك : أنهم كفروا البادية بالعموم .
ومنها : أنهم يلزمون من دخل في هذا الدين أن يلبس عصابة على رأسه ، ويسمونها : العمامة ، وأنها من السنة .
ومنها : أنهم لا يسلمون إلا على من يعرفون وتميز بالعمامة . وهم مع ذلك يزعمون أنهم هم على السنة ، وأن المشايخ يميتون السنن .
ومنها : أنهم لا يدعون أحدا صلى معهم صلاة الصبح أن يخرج من المسجد إلا بعد طلوع الشمس .
ومنها : أنهم أدخلوا في دين الله ما ليس منه ، فزعموا أن تدوية البدو للإبل عند ورودها وصدورها بدعة .
ومنهم من تجاوز الحد في التأديب عند فوات بعض الصلاة ، فضربوا رجلا منهم حتى مات . .
فلما اشتهر هذا الأمر عنهم ، وهذا الغلو والتجاوز للحد ، خاف الإمام أن يسيروا بسيرة الخوارج ، فيمرقون من الدين بعد أن دخلوا فيه ، كما مرق منه من غلا في الدين وتجاوز الحد ممن كانوا من أعبد الناس وأزهدهم وأكثرهم تهليلا ، حتى إن الصحابة يحقرون أنفسهم عندهم ، وهم تعلموا العلم من الصحابة . . إلى أن قال الشيخ : وأما سبهم المشايخ وثلبهم إياهم وإساءة الظن بهم ، وكذلك ما نسبوه إلى ولي الأمر من الأقوال التي لا تروج على عاقل ، ويغتر بها كل مغرور جاهل ، فهذا كله مما يرفع الله به درجات الإمام ، والمشايخ ، وحسابهم على الله ، وسيجازيهم بما جازى به المفترين ؛ لأن الإمام والمشايخ لم يمنعوهم إلا خوفا على من دخل هذا الدين أن يسلك مسلك الخوارج ، الذين مرقوا من دين الإسلام وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا .
وأما قول بعضهم : ما فعل المشايخ ذلك إلا حسدا منهم للإخوان في دعوتهم . فنقول : وهل يدور في عقل عاقل أن المشايخ يحسدونهم على ما أحدثوه من البدع والغلو والمجازفة والتجاوز للحد !!
وأما قولهم : إن المشايخ داهنوا في دين الله ، والإخوان أمروا وأنكروا . فنقول : ما أشبه الليلة بالبارحة ، فلا جرم قد قالها الذين من قبلهم لما نهاهم أهل الحق عن الغلو في الدين ، قالوا لمن نهاهم : يا أعداء الله قد داهنتم في الدين . وهم يزعمون أنهم ما فعلوا ذلك إلا من أجل أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، تشابهت قلوبهم .
وأما قولهم : الإخوان علمونا ملة إبراهيم وبينوها ، والمشايخ كتموها ودفنوها . فنقول : إن كان هذا حقا فسيجازيهم الله على ذلك . لكنهم مع ذلك قد سلكوا بهم مسلك أهل البدع ، وتجاوزوا بهم الحد في الأقوال والأفعال ، وشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ، فإن كان هذا هو ملة إبراهيم فقد أعظموا على الله الفرية وعلى ملة إبراهيم .
وأما قولهم : ما أطاع الإمام المشايخ إلا لسكوتهم عنه للمآكل والأغراض . فنقول : هذا - أيضا - من جنس ما قبله من الطعن على الإمام وعلى المشايخ بالزور والبهتان . . ا هـ .
المصدر: حملة السكينة