إن الحمد لله تعالى، نحمده، ونستعين به، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهدِ الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هاديَ له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فإن الصدق مطلوب من الإنسان، وواجب عليه أن يكون صادقًا في أقواله وأفعاله وعقيدته، والمرء إذا تعلق بشيء وتخلق به حقا كان أو باطلا عرف به وصار ممدوحًا به أو مذمومًا، وخير ما يمدح به المسلم ويتصف به الصدق، وتجنب الكذب، لأن الصدق يجعل الإنسان في منزلة عالية عند الله وعند خلقه، والرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا بالصدق وحضنا عليه، ونهانا عن الكذب وحذرنا منه، وأوضح لنا منزلة الصدق والصادقين والكذب والكذابين.
قال صلى الله عليه وسلم: ) إنَّ الصِّدقَ يَهْدِي إِلَى البرِّ، وإنَّ البر يَهدِي إِلَى الجَنَّةِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَصدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا. وَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكتَبَ عِنْدَ الله كَذَّابًا (.
تعريف الصدق:
الصدق لغةً: هو الصدق في القول ماضيا كان أو مستقبلا، وعدا كان أو غيره، ولا يكون في القول إلا في الخبر دون غيره من أصناف الكلام، كما من معانيه القوة، والنقاء.
وهو اصطلاحًا: مطابقة القول -أو الفعل- الضمير والمخبر عنه، ومتى انخرم شرط في ذلك لم يكن صدقا تاما، بل إما ألا يوصف بالصدق، وإما أن يوصف تارة بالصدق وتارة بالكذب على نظرين مختلفين.
ومن خير ما عرف به كذلك: أنه استواء السر والعلانية، والظاهر والباطن، بألا تُكَذِّب أحوالُ العبد أعمالَه، ولا أعمالُه أحوالَه.
درجات الصدق:
ثم درجات الصدق لا نهاية لها، وقد يكون للعبد صدق في بعض الأمور دون بعض فإن كان صادقًا في الجميع فهو الصديق حقا. ومن أظهر درجات الصدق ما يلي:
الدرجة الأولى: صدق اللسان:
وهذه المرتبة من الصدق من أعظم المراتب، وتكميلها من أعظم الأمور وأشقها على النفس، لكن ليس الصدق منحصرًا فيها كما يظن كثير من الناس، وهذا النوع من الصدق يستلزم أمورًا ثلاثة:
1- الصدق في نقل الأخبار: كما قال سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ (سورة الحجرات: ٦).
2- واجتناب الظنون والأوهام: كما قال صلى الله عليه وسلم: ) إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث (.
3- والحذر من التحدث بكل ما يسمع: كما قال صلى الله عليه وسلم: ) كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع (.
الدرجة الثانية: الصدق في النية والإرادة:
فيستلزم أن تكون بواعث الأعمال والسكنات كلها لله عز وجل، وأن يكون الظاهر معبرًا عن الباطن، فإن تكلم العبد بلسانه خلاف ما في قلبه فهذا يدل على عدم الصدق في النية كما قال الله عز وجل في وصفه المنافقين: ﴿ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ (سورة الفتح: ١١).
ومن ذلك حديث الثلاثة أول من تسعر النار بهم يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: ) إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ: رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ. فَقَدْ قِيلَ؛ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ؛ وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ. فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ. فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ (.
الدرجة الثالثة: الصدق في العمل:
وهذا يستلزم أن يجاهد الإنسان نفسه لتكون سريرته وعلانيته واحدة، وألا تدل أعماله الظاهرة على أمر باطن لا يتصف به حقيقة كمن يتظاهر بالخشوع في الظاهر، والقلب ليس كذلك.