الإسلام دين يأمر بالعدل، ويساوي في المعاملة بين الجميع، بصرف النظر عن أصولهم أو جنسهم أو ألوانهم أو اعتقادهم أو منزلتهم الاجتماعية. يقول الله تعالى في كتابه الكريم:"إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ " النحل: ٩٠
عند تدبر الآية تجد أن الله سبحانه وتعالى لم يحدد من هم المأمورون بالعدل، ولا من هم من يجب أن نتحرى العدل تجاههم، كما أنه لم يحدد موقفاً بعينه أو ظروفاً بعينها ينبغي على المرء أن يكون عادلاً فيها. بناءاً على ذلك، استنبط علماء المسلمين أن العدل وحسن المعاملة هي أمور مطلوبة من جميع البشر عند التعامل فيما بينهم، وفي كل الأحوال.
تعريف العدل
عندما نحاول وضع تعريف للعدل، يتبادر إلى الذهن عدداً من المعاني: "...الأمانة، الحياد، استخدام السلطة لإعلاء الحق؛ تطبيق القانون؛ إعطاء الحقوق لأهلها..."
ُيعرِّف علماء المسلمين العدل بصورة عامة على أنه نقيض (الظلم)، والذي ُاصطلح على أنه: "وضع الشيء في غير موضعه" ويعني حرفياً "الإجحاف" أي إعطاء الناس أقل مما يستحقونه.
نخُلص من ذلك إلى أن أقرب تلك المعاني السابقة إلى المعنى الإسلامي هو: " إعطاء الحقوق لأهلها". ومع ذلك، فهذا المعنى يستلزم "الأمانة"، ويقتضى "الحياد"، وفى بعض الأحيان يتطلب " استخدام السلطة وتطبيق القانون لإعلاء الحق."
لذا، يمكننا أن نقول أن التعريف الإسلامي للعدل يشمل كل تلك المعاني.هناك خطأ شائع يقع فيه الكثيرون، حيث أنهم يعتبرون أن العدل والمساواة مترادفين، وأن المرء إذا لم يساوى بين اثنين، فهو ليس بعادل أو لم يتحر العدل. وهذا ليس صحيحاً، فبرغم من أن العدل والمساواة قد يكون بينهما أوجه تشابه،وأن العدل قد يقتضي المساواة في المعاملة في بعض الأحيان، إلا أن تلك ليست هي الحال دائماً. ففي بعض الأحوال قد يتحقق العدل من خلال عدم المساواة.
ففي الإسلام يرث الرجل ضعف ما ترثه المرأة، وهذه قوانين وتشريعات سنها الله سبحانه وتعالى، الذي يصف نفسه قائلاً:"وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا" الكهف: ٤٩
لذا، فنحن متيقنون من أن تلك القوانين غير ظالمة، برغم أنها تفتقر إلى المساواة، وهذا يدل بوضوح على أن العدل والمساواة ليسا متطابقين، بل بالأحرى قد يكونا في بعض الأحيان أمرين مختلفين تماماً.
دعوة الإسلام للعدل
الإسلام يدعو أتباعه إلى تحري العدل والسعي إلى تحقيقه، بعدد من الطرق:
توجيه الأمر للمسلمين بأن يكونوا عادلين
يقول الحق سبحانه وتعالى:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً" النساء: ١٣٥
ويقول أيضاً: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ"المائدة: ٨.
إعلام المسلمين أن العدل أمانة ( أي واجب سيسألون عنه يوم القيامة)
يقول الله تعالى:"إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا"النساء: ٥٨
يقول بعض علماء التفسير أن: "ذكر العدل مباشرة بعد الأمر بأداء الأمانات يشير إلى أن ( إرساء العدل وتحقيقه) هو أحد أهم أنواع أداء الأمانات وأكثرها لزوما."
إخبار المسلمين أن إرساء العدل هو أحد الأسباب الرئيسية لإرسال الرسل وإنزال الكتب
يقول الله تعالى:"لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ" الحديد: ٢٥
يقول علماء التفسير أن كلمة "رسلنا " تبين أن العدل هو مقصد كل الرسالات السماوية والكتب المنزلة من عند الله سبحانه وتعالى، كما تبين الآية أيضاً أنه ينبغي إتباع الإرشادات والمعاييرالواردة في الكتب السماوية من أجل تطبيق العدل وقياسه.
تلك الجملة الأخيرة لها أهمية خاصة، حيث أنها تبين أمراً ينبغي فهمه وهو أن:
العدل نوعان:
1ـ عام وغير مقيد؛ وهو نوع تميل إليه الفطرة وتقبله بلا مواربة، ويمكن رؤيته في كل وقت وفي كل مكان، ولا يُنظر إليه أبدا كإجحاف أو كسلوك غير قويم؛ كأن تحسن معاملة من يحسن معاملتك، وأن تكف الأذى عمن كف أذاه عنك.
2 ـ عدل لا يمكن استيعابه إلا في ضوء التشريع، ويمكن دحضه أو إلغاؤه في بعض الحالات (بهدف تحقيق استفادة أكبر). كالعفو عن القاتل، برغم أن العدل يقتضى قتله، والصفح عمن اقترف ذنباً بحقك، برغم أن العدل يستلزم أن يتلقى العقوبة".
ولا يلزم من ذلك تعارض النوع الأول مع النوع الثاني، فالمفهوم الديني للعدل ينبغي أن تكون له الأولوية، حيث أن البشر قد خلقوا ليعبدوا الله ويطيعوا ما أمرهم به، وهذا يقتضي إقامة العدل بالشكل الذي يرضيه سبحانه وتعالى.
إعلام المسلمين بفضائل العدل ومزاياه، يجعلهم يحرصون على التمسك به، طمعاً في تحقيق هذا الفضائل، التي تتضمن:
1 ـ إدراك محبة الله تعالى، فالله عز وجل يحب المقسطين يقول الحق تبارك وتعالى:"وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" المائدة: ٤٢
2 ـ الدخول في رحمة الله سبحانه وتعالى والحصول على مغفرته يوم القيامة؛ فالحاكم العادل يدخله الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله... وذكر منهم الإمام العادل."
3 ـ دخول الجنة؛ فالذين يتحرون العدل في أفعالهم سيكون جزاؤهم الجنة، ويتمتعون بالقرب من عرش الرحمن سبحانه وتعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن المقسطين عند الله على منابر من نور الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا"
4 ـ تحريم الظلم فيما بينهم: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حكاية عن ربه سبحانه وتعالى: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا"
إعلام المسلمين بمساوئ الظلم ومهالكه حتى يتجنبوه ويتحروا العدل بينهم، تلك المساوئ تتضمن:
أن الله قد لعن الظالمين
يقول الله تعالى:
"وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ" الأعراف: ٤٤
أن الله لا يحب الظالمين
يقول الله تعالى:
"وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ" آل عمران: ٥٧
أن الله لا يهدي الظالمين
يقول الله تعالى:
"فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" البقرة: ٢٥٨
أخبر الله سبحانه وتعالى أن الأمم السابقة إنما هلكوا بسبب طغيانهم وظلمهم
يقول الله تعالى:"وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً" الكهف: ٥٩.
5 ـ أن النار هي مأوى الظالمين
يقول الله تعالى:"وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا" الكهف: ٢٩
ويقول تعالى أيضاً:
"إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ" المائدة: ٢٩
وبهذا، يبين لنا الله ورسوله بشكل غاية في الوضوح أن الإسلام إنما هو دين عدل، ولذا فمن واجب كل مسلم أن يسعى جاهدا لإقامة العدل وتطبيقه.
أمثلة خاصة تبين حرص الإسلام على إقامة العدل.
برغم أن الإسلام قد أمر بشكل عام بإقامة العدل في جميع الأحوال والظروف، فقد كان أشد تحديداً في حالات بعينها، خاصة تلك التي يغلب فيها حدوث الظلم، أو التي قد يغض الناس عنها الطرف.
1ـ العدل في معاملة اليتامى
يقول الحق تبارك وتعالى:
"إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا" النساء: ١٠
ويقول تعالى أيضا:
"وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ" الأنعام: ١٥٢
2 ـ العدل في المعاملات التجارية
يقول الله تعالى:
"وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ " الأنعام: ١٥٢
3 ـ العدل بين الزوجات
يقول الحق تبارك وتعالى:
"وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا" النساء: ٣
فتعدد الزوجات أمر مرغوب في الإسلام، كما يدل على ذلك هذا النص وغيره من النصوص. لكن، إن خشي المرء ألا يعدل بينهم، حينئذ يصبح هذا الأمر الحلال محرماً. وهذا يدل على مدى الأهمية التي وضعها الإسلام للعدل، حتى في الأمور الشخصية.
4 ـ العدل في العقوبة
روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أيها الناس؛ إنما أهلك من كان قبلكم؛ أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، و أيم الله ـ يعني أقسم بالله ـ لو أن فاطمة بنت محمد سرقت؛ لقطعت يدها".
هذه نبذة مختصرة عن رؤية الإسلام للعدل، نسأل الله أن يجعلنا من المقسطين، ويرزقنا ثواب العدل في الدنيا والآخرة.