أبو معاذ محمد الطايع
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فالواجب على المسلم غض بصره وعدم النظر إلى من لا تحل له من النساء - حتى وإن لم يجد شهوة عند النظر - كما أمر تعالى في قوله: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ (سورة النور: الآية: 30)، ولقول النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: ) إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ (. وغض البصر يفيد الجميع، من وجد شهوة عند النظر، ومن لم يجد، ودليل ذلك في الآية التي ذكرناها والتي فيها الأمر بغض البصر وفيها: ﴿ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ ﴾. والآية فيها أمر للمؤمنين جميعًا من يجد شهوة عند النظر ومن لا يجد شهوة، فعلق - سبحانه وتعالى - زكاة نفس من غض بصره على مجرد غض البصر ولم يقيد تلك الزكاة بحال الشهوة.
وكذلك غض البصر هو امتثال لأمر الله - سبحانه وتعالى - ولأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- وهذه الفائدة متحققة لكل من غض بصره، إلا أن الذي يجاهد نفسه مع وجود الشهوة أعظم استفادة بفوائد غض البصر من الذي لا يجد شهوة، فكلما اشتدت دواعي المعصية وسهلت طرقها كانت مجاهدة النفس على تركها أفضل من الذي ضعفت عنده دواعي المعصية، وكانت الثمرة في حق من يجاهد نفسه أعمق وأبلغ، وهؤلاء من الذين أخلص الله قلوبهم وعمرها بتقواه.
وعن مجاهد قال: كُتب إلى عمر -رضي الله عنه-: يا أمير المؤمنين رجل لا يشتهي المعصية، ولا يعمل بها أفضل، أم رجل يشتهي المعصية ولا يعمل بها؟ فكتب عمر: إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ (سورة الحجرات: الآية: 3). وعن أبي سليمان الداراني في قوله تعالى: ﴿ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ﴾ (سورة الإنسان: الآية: 12)، قال: بما صبروا عن الشهوات.
فوجود الشهوة ثم مجاهدة النفس على تركها من أعظم وأفضل أنواع الجهاد، فعن فَضَالَةَ بْن عُبَيْدٍ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: ) الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل (.
وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: ) سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أي الجهاد أفضل؟ قال: أن تجاهد نفسك وهواك في ذات الله عز وجل (. ووعد الله من جاهد فيه - سبحانه وتعالى - بالهداية، فقال: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ (سورة العنكبوت: الآية 69). وليست هذه الآية في جهاد الكفار فقط، بل هي في الجهاد العام في دين الله وطلب مرضاته، فسورة العنكبوت مكية ولم يكن الجهاد بمعنى القتال قد فرض.
هذا... والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.