د.هاشم عبد الله الصالح
كان الحديث فيما مضى عن العنصر الأول من النصف الأول والخاص بالإنسان في معادلة النجاح. فهذه المعادلة, معادلة النجاح, للتذكير نصفها يقوم به الإنسان, ويشمل هذا النصف أو الطرف من المعادلة عنصر الاجتهاد وعنصر الصبر, وأما النصف الآخر والطرف الثاني من المعادلة فيتمثل فيما يتفضل به الله - سبحانه وتعالى - من رحمته وبركاته وكرمه على الإنسان المجتهد والصابر من توفيق وبركة, فالتوفيق من الله عنصر، والبركة في العمل هو العنصر الآخر من النصف الثاني في معادلة النجاح.
فأول ما يطالب به الإنسان في الطريق إلى النجاح هو العمل والاجتهاد، وقدرات الإنسان والإمكانات التي أودعها الله فيه لا تتطور ولا تكشف عن نفسها إلا بالعمل والاجتهاد, لا بل ما يقوله الناجحون هو أبعد من ذلك, فهم يقولون ردا على من يطالبهم بالتوقف عن كل هذا العمل وهذا التعب والاجتهاد بعد أن تحقق لهم هذا القدر الكبير من النجاح, إن كل ساعة بل كل لحظة إن لم تختبر ما فيها من نعم وأسرار بعملنا واجتهادنا فهي لحظة لا تستحق أن نعيشها أو نسميها بالحياة. وهذا العالم الباكستاني الكبير إقبال يقول في قصة معراج النبي -صلى الله عليه وسلم - حيث وصل إلى قاب قوسين من الدنو والقرب من الله - سبحانه وتعالى - كيف له أن يترك هذا القرب ويعود إلى الحياة من جديد, فيجيب هذا العالم المسلم من هذا التساؤل بأن اجتهاد النبي في الدعوة إلى الله وتفضل الله عليه هو الذي أوصله إلى هذه المنزلة العظيمة، وهو عاد إلى الحياة من جديد ليزداد عملا واجتهادا ليزداد دنوا وقربا من الله - سبحانه وتعالى - حياة الإنسان في الظاهر هي الوصلة الزمنية بين ولادته ويوم وفاته، ولكن عمقها غير محدود ولا يحدده غير عمل الإنسان واجتهاده, فهناك من الناس من تنتهي حياته فتنقشع كالقشرة لا أثر لها ولا عمق لها, وهناك من الناس من إذا رفع الغطاء تجد أنهارا جارية وغابات مثمرة وهناك من تجد في عمق دنياهم بحارا ومحيطات وجنات تستمر في حياتها وعطائها حتى إلى ما بعد وفاة صاحبها, فكما يقول أحد الحكماء إنك إذا كنت ليس بميت فلا يعني هذا أنك حي, فالحياة بالعمل والاجتهاد بل إن هذه الحياة قد تمتد وتستمر بالعمل والاجتهاد حتى بعد موت الإنسان نفسه, فكم من ناجح وعظيم ما زال إلى اليوم يعيش بيننا وما زلنا ننتفع بعمله وعطائه واجتهاده, وكم من الناس من ماتوا وهم لا يزالون يعيشون ويحيون بأجسادهم بيننا, بل هناك من يتعجل الناس موتهم لأن في وجودهم فسادا وتخريبا للحياة. وكم هي جميلة تلك الجملة التي قالها رئيس وزراء بريطانيا السابق ونستن تشرشل: إننا نعيش الحياة بما نحصل عليه منها ونصنع الحياة بما نعطيه نحن لها, فالعمل والاجتهاد ومن ثم النجاح هو الفارق بين أن نعيش الحياة أو نصنع الحياة.
أما العنصر الثاني من نصف معادلة النجاح الذي هو من الإنسان هو الصبر, فإذا كان العمل والاجتهاد هو في الحقيقة اختراق الحياة والنفاذ إلى أعماقها وكشف الحجب عن أسرارها وامتلاك القوة في التأثير فيها والانتفاع بخيراتها، فإن الحياة لا تعطي من نفسها للإنسان بسهولة ويسر ومن دون أن تختبر إرادته وتصميمه بإثارة المشكلات والابتلاءات في طريقه. الصبر قرين العمل والاجتهاد، ولا بد للإنسان أن يوطن نفسه على الصبر والتحمل وإلا ستكون عاقبته الفشل حتى وإن امتلك عوامل النجاح الأخرى. فالأنجح من بين المجتهدين هو أكثرهم صبرا وأقدرهم على تحمل المعاناة والمشكلات, بل إن هناك من أصحاب الرأي ممن يرى أن الحياة لا ينقصها كثرة المجتهدين بقدر ما ينقصها كثرة الصابرين, فكم من مجتهد أوشك على الوصول إلى غايته وتحقيق هدفه فاستكثر على نفسه المشكلات والصعاب ولم يصبر عليها فانهارت قواه النفسية وآثر التراجع وربما كان النجاح على مسافة خطوة واحدة منه. فللصبر قيمة عظمى في تحقيق الإنسان النجاح والفلاح, ويكفي للصبر من منزلة عظيمة أن الله - سبحانه وتعالى - اتخذ على نفسه أن يكون مع الصابرين, ولو أيقظنا الناجحين الموتى من قبورهم وجمعنا الأحياء الحاضرين منهم وسألناهم عن سر نجاحهم وتفوقهم لقالوا لنا إنهم عملوا بصبر وتحملوا معاناة التزامهم بالعمل والاجتهاد. فإذا كان أفضل الحديد هو ذلك الحديد الذي يصهر في أكثر الأفران حرارة فإن أفضل النجاحات هي تلك النجاحات التي تحيط بها البلوى والتحديات من كل صوب. فلو لم يصبر توماس إديسون وهو يفشل المرة تلو الأخرى في طريقه لاكتشاف المصباح الكهربائي لاحتاجت الإنسانية ربما إلى عشرات السنين من أجل أن يخرج رجل عالم مثله ليكتشف لنا هذا المصباح بعلمه وصبره. وهكذا الحال مع مخترع ماكينة التصوير الذي عمل واجتهد لتطوير فكرته, ولكنه اصطدم برفض الشركات المصنعة لقبول فكرته وتصنيعها, ذهب إلى أكثر من 20 شركة وفشل في إقناعها ولكنه صبر وتحقق له ما أراد. وقصة تلك الطفلة التي ولدت من بين 22 طفلا في عائلتها، وولدت وهي غير مكتملة النمو وظن الجميع أن حياتها ستكون قصيرة وفاشلة ثم أصيبت بمرض في سنتها الثانية، وتسبب هذا المرض بشلل في ساقها اليسرى، وأخبر الأطباء أهلها باحتمال عدم قدرتها على المشي إطلاقا, وسارت الحياة بهذه الفتاة فأصرت على نفسها وتحدت قول الأطباء وصبرت على التمارين فمشت ثم اتخذت قرارها بالدخول في سباقات الجري، وظلت لسنوات وهي تحتل المركز الأخير في كل سباق تدخله ولكنها ظلت صابرة ومجتهدة في تمارينها ولم تلتفت إلى من كان يطالبها بالتخلي عن حلمها والفوز في سباق الجري، وأخيرا تحقق لها هذا الحلم وفازت وثم تعدد فوزها, وأخيرا استطاعت هذه الفتاة غير المكتملة في ولادتها والمشلولة في قدمها والمشكوك أصلا في قدرتها على المشي أن تفوز بثلاث ميداليات ذهبية في الأولمبياد. إن القادر من يعتقد أنه قادر، وإن في الإنسان لطاقة عظيمة لا يصل إليها إلا المجتهدون الصابرون.
والصبر ليس بالمسألة الهينة فهو بحاجة إلى تدريب نفسي وروحي, فمواجهة المشكلات والصعوبات والابتلاءات أمر ثقيل على النفس ويستهلك كثيرا من طاقة الإنسان الداخلية, ولهذا يصعب على كثير الاستمرار في مواجهة المصاعب والتحديات, فمن أين لهؤلاء الصابرين كل هذه الطاقة التي يستهلكونها في المواصلة والإصرار على النجاح؟ أليس الله مع الصابرين؟ أليست هذه المعية وهذا القرب من الله هما الكفيلين بمدهم من الطاقة مما لا حد ولا أمد له؟ وإذا أردنا أن نستعير من الكيمياء قوانينها فإننا نقول إن الصبر عملية احتراق في داخل نفس الإنسان, وهذا الاحتراق بقدر ما تتولد منه طاقة يستمد منها الإنسان القوة لمواجهة ما قد يعترض طريقه من مشكلات وابتلاءات فإنه ينتج عنه أيضا حرارة تتمثل في ألم ومعاناة نفسية, فما أكثر ما يعانيه الناجحون من العلماء والمجتهدين الصابرين من اتهامات ومضايقة وربما إقصاء وتشريد وغيرها من المعاناة, فأين لهم بما يبرد نفوسهم ويلطف من حرارة أعماقهم, إن - الله سبحانه وتعالى - عندما أخبر المجتهدين بأن يستعينوا بالصبر للوصول إلى النجاح قرن تلك الاستعانة بالصلاة, والصلاة هي العنوان الأكبر للعبادة والتقرب من الله ـ سبحانه وتعالى. الصلاة والسجود والدعاء ومناجاة الله هي خير ملطف لنفوس الصابرين الملتهبة بحرارة الصبر.
هذا هو نصف معادلة النجاح وهو النصف الإنساني, اجتهاد وصبر وعمل وتحمل ومواصلة وإصرار, وللحديث تتمة عن النصف الآخر من المعادلة.