د. محمد عمارة .
عندما سقطت " الشمولية ـ الشيوعية ", ارتفع صوت " الليبرالية ـ الرأسمالية ", زاعمة أنها هي " نهاية التاريخ", وأن " صراع الحضارات" هو السبيل إلى فرض وعولمة نموذجها على العالمين .
لكن المشهد " الاقتصادي ـ الاجتماعي " العالمي لهذه " الليبرالية ـ الرأسمالية " قد غدا مخيفا في مظالمه المتوحشة, إلى الحد الذي دفع ويدفع قطاعات حتى من أنصار هذه " الليبرالية ـ الرأسمالية" إلى البحث عن " طريق ثالث " ـ غير الشيوعية والرأسمالية ـ لكنهم يلتمسونه طريقا " رأسماليا معدلا " .. ولم يفكر أي منهم في الانعطاف نحو فلسفة الإسلام في الأموال والثروات, ونموذجه في العدل والتكافل والمساواة وحقوق الإنسان .
وإذا كانت الماركسية ـ وشيوعيتها ـ قد سبق وقتلت في ثلث الإنسانية روح المبادرة والخلق والإبداع, فضلا عن محاربتها للتدين ومطاردتها للإيمان, فإن الرأسمالية المتوحشة قد وضعت كل الإنسانية في " مأساة عبثية " لا أعتقد أن لها نظيراً في التاريخ ..
• إن 225 فردا ـ من أبناء الشمال ـ يملكون ما يساوى ملكية مليارين ونصف المليار من أبناء الجنوب ـ أي نصف البشرية المعاصرة ! و3 أفراد ـ في أمريكا ـ يملكون ما يساوى ملكية 48 دولة ـ أي قرابة ثلث أعضاء الأمم المتحدة !..
• ونفس المشهد نجده في الاستهلاك .. فـ 20% هم أبناء الحضارة الغربية ـ سكان الشمال ـ يستهلكون 86% من الإنتاج العالمي ..
• وبسبب تركز الثروات, ومن ثم الاستهلاك المترف, في يد القلة, تركز الفقر وانعدام القوة الشرائية في جانب الكثرة الكاثرة .. الأمر الذي جعل رأس المال العالمي ينصرف عن الاستثمار الإنتاجي والتجاري والخدمي إلى السمسرة والمقامرات والمضاربات وصناعة السلاح وتجارة المخدرات .. فلقد بلغ حجم الأموال السائلة الهائمة في المضاربات 100 تريليون دولار, بينما تقلص حجم الأموال الموظفة في الإنتاج والتجارة إلى 3.5 تريليون !..
• ونفس المشهد البائس والمتوحش نجده في نسبة ما ينفق ـ من الاقتصاد العالمي ـ على الدمار والترف إلى نسبة ما ينفق على ضرورات وحاجات الناس .. فـ 870 بليون دولار هي حجم الإنفاق على التسلح..
و 400 بليون دولار هي حجم الإنفاق على المخدرات ..
و 105 بليون دولار هي حجم الإنفاق على الخمور في أوربا وحدها..
و 67 بليون دولار هي حجم الإنفاق على القطط والكلاب المنزلية في أوربا وأميركا وحدهما..
بينما لا يزيد ما ينفق على التعليم في العالم كله عن 6 بليون دولار!.. وما ينفق على التغذية والصحة معا لا يتعدى 13 بليونا!.. أي أن ما ينفق على التسلح والمخدرات والخمور والقطط والكلاب هو 1442 بليون دولار .. وما ينفق على كل من التعليم والتغذية والصحة لا يتعدى 19 بليونا, فقط لا غير!..
• وهذا الخلل الفاحش, في التملك.. وفي الاستهلاك.. وفي الإنفاق, قد أدى إلى ذات الخلل الفاحش في توظيف طاقات العلم الكوني المعاصر, فـ 90% من علماء العالم يعمل أغلبهم, بشكل مباشر أو غير مباشر, في صناعة السلاح والدمار .. بينما لا يعمل في العلم النافع ـ بمختلف ميادينه ـ سوى 10% من العلماء!..
• ولم يقف هذا الخلل عند هذه المعالم الكالحة في توحشها.. وإنما انعكس في صورة نزيف " الديون .. وفوائدها الفاحشة " لحساب القلة الغنية, وعلى حساب 80% من سكان العالم, القاطنين في الجنوب. فالشركات متعددة الجنسية تقترض الدولارات من أغنياء " وال ستريت " بفائدة 6% وتقرضها بفائدة تتراوح بين 20% و50% لفقراء الجنوب .. حتى غدت صادرات الفقراء ـ 80% من سكان العالم ـ لا تكاد تفي بسداد فوائد الديون وخدمتها .. وليس سداد نفس الديون!.. وفى دول إفريقيا جنوب الصحراء يخصص لسداد فوائد الديون أربعة أضعاف ما يخصص للصحة والتعليم!..
• وهذا التفاوت المتوحش بين الشمال والجنوب, نجده متجسدا في داخل حضارات الجنوب ـ بين تخمة الترف وبين الفقر المدقع ـ .. ففى داخل الحضارة الإسلامية تتفاوت دخول الأفراد ما بين 31165 دولار و100 فقط لا غير !..
أمام هذا المشهد " المأساوي ـ العبثي " غير المسبوق في تاريخ الحضارات الإنسانية, والمنذر بتصاعد حدة ومخاطر الأزمات والمآسي ـ والذي تريد " العولمة " فرضه على الإنسانية بأسرها ـ يتزايد الإلحاح على العقل المسلم كى يقدم مبادئ الإسلام الاجتماعية في العدل والتكافل والمساواة, وفلسفة الإسلام في الأموال والثروات, طريقا متميزا لإنقاذ عالم الإسلام ـ أولاً ـ من هذا المأزق الرأسمالي المتوحش, ثم لترشيد النظام المالي والاجتماعي العالمي بهدى الإسلام .