د. محمد عمارة .
التكافل .. والمساواة .
التكافل : هو التضامن والإعالة والرعاية, على النحو الذي يجبر القصور الحادث لدى طرف من أطراف علاقة التكافل .. فهو تفاعل بين طرفين أو أكثر.. والتكافل الاجتماعي : نظام يقيم علاقة التفاعل والتضامن والإعالة والرعاية بين أعضاء الاجتماع الإنساني في مجتمع من المجتمعات..
وإلى هذا المعنى تشير الآيات القرآنية : { وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم }آل عمران 44 و { هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم } القصص 12 و { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا } النحل 91. والتكافل الاجتماعي, في الفلسفة الاجتماعية الإسلامية, مؤسس على القاعدة الإسلامية الكلية, قاعدة إرادة الله, سبحانه وتعالى, قيام التوازن والموازنة والميزان بين الأفراد والطبقات والجماعات والأطراف, في مختلف أمم وأنواع المخلوقات ..
لقد تفرد الخالق, سبحانه وتعالى, بالوحدانية, ليشركه فيها مخلوق من المخلوقات.. فجميع من عداه وما عداه ـ في كل عوالم الخلق ـ قائم على التعدد والتزاوج .. ولذلك كانت فلسفة الإسلام, لإقامة العدل, والعلاقة الصحية بين الأزواج والمتعددين, في الميول والمصالح والطاقات والإمكانات والاحتياجات والمقاصد, هي التوازن والموازنة, أي التكافل, الذي يقيم ويحافظ على نسيج الاجتماع, وذلك حتى لا يسير التناقض والتنافر بالأطراف المختلفة إلى الصراع والدمار.
فعدل الله, سبحانه وتعالى, هو " الميزان", الذي أنزله الله مع الكتاب لتستقيم كل شئون الاجتماع, ومنها شئون الاجتماع الإنساني.. { الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان } الشورى 17. { وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط } الحديد25. .. فالعدل الإلهي هو أداة " التوازن " في مختلف ميادين الحياة.. ولأن الله قد استخلف الإنسان ـ مطلق الإنسان ـ في الثروات والأموال, فلقد حدد للخلفاء والوكلاء ـ المستخلفين في الثروات والأموال ـ المعالم التي تقيم التكافل بينهم وتحقق التوازن لهم في هذه الأموال والثروات, معالم التكافل والتضامن والاشتراك, المؤسس على حل مصدر الحيازة, وحل أنواع الإنفاق والتنمية والاستثمار, والاكتفاء في الاختصاص بحد الكفاية, وتدوير ما زاد عن ذلك للصالح العام لعموم المستخلفين ..
فما زاد عن كفاية " التكافل الخاص " ينفق ويوظف لإقامة " التكافل العام ".. والإنفاق ـ في العرف الإسلامي ـ لا يقف عند الصدقات, وإنما هو مطلق توظيف المال الحلال في كل وجوه الاستثمار في جميع ميادين النفع والتكافل العام.. وهذا التكافل الاجتماعي الإسلامي في شئون المعاش ـ المادية والاجتماعية ـ لا يعنى " المساواة الحسابية " بين أفراد المجتمع, وإنما يعني " التوازن " الذي يحقق حد الكفاية للجميع, وضبط التفاوت بضوابط الحلال الديني والكفاءة في العطاء, مع وضع سقف للتفاوت يمنع الاحتكار والأثرة والطغيان.. إنه المحقق لغنى الكفاية للجميع, مع فتح أبواب الثراء أمام الكفاءات والإمكانات, بعيدا عن " الكنز " المعطل لدوران عجلة التنمية والاستثمار, وبعيداً عن " الاستفراد " الذي هو المقدمة للطغيان..
وعن هذه الفلسفة التكافلية, التي حققها الإسلام في الثروات والأموال, تحدث الفاروق عمر بن الخطاب, رضي الله عنه, عندما قال : " والذي نفسي بيده, ما من أحد إلا وله في هذا المال حق, أعطيه أو مُنعه! وما أحد أحق به من أحد.. وما أنا فيه إلا كأحدهم!.. فالرجل وبلاؤه.. والرجل وقدمه.. والرجل وغناؤه.. والرجل وحاجته"..
وتحدث الإمام على بن أبى طالب, كرم الله وجهه, فقال : " إن الله فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء, فما جاع فقير إلا بما مُتّع به غني!.. إن الغنى في الغربة وطن! والفقر في الوطن غربةّ! وإن المقل غريب في بلدته!.." .. إنه " الميزان ", يعتدل " بالتكافل ", ويختل بغيبته, فما جاع فقير إلا بما متع به غنى!.. وهو " حق " معلوم.. أي فريضة إلهية, وتكليف شرعي ..
أما خامس الراشدين, عمر بن عبد العزيز, رضي الله عنه, فلقد رسم لهذا التكافل الاجتماعي ـ الذي أعاد العدل لموازينه بعد أن اختلت ـ صورة فلسفته الإلهية, عندما قال: " إن أهلي أقطعوني ما لم يكن لي أن آخذه, ولا لهم أن يعطونيه!.. وإن الله, تبارك وتعالى, قد بعث محمدا, صلى الله عليه وسلم, رحمة إلى الناس كافة, ثم اختار له ما عنده, فقبضه إليه, وترك للناس نهرا يشربهم فيه سواء!.. ثم قام أبو بكر فترك النهر على حاله, ثم ولى عمر فعمل على عمل صاحبه, فلما ولى عثمان اشتق من ذلك النهر نهراً !, ثم ولى معاوية فاشتق منه الأنهار!. ثم لم يزل ذلك النهر يشق منه يزيد, ومروان, وعبد الملك, والوليد, وسليمان, حتى أفضي الأمر إلىّ, وقد يبس النهر الأعظم!ولن يروى أصحاب النهر حتى يعود إليهم النهر الأعظم على ما كان عليه"
ذلك أن غيبة التكافل الاجتماعي إنما تعنى حلول " الخلل " محل " التوازن والاتزان والتضامن" بين الجماعة الإنسانية في المجتمع, فيتركز الثراء في جانب, ويتركز الفقر في جانب.. ولذلك كان مجتمع " التكافل الاجتماعي " هو النقيض لمجتمع " دولة الأغنياء ", الذي تحدث عنه القرآن الكريم في كثير من الآيات, منها: { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامي والمساكين وابن السبيل كى لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب } الحشر 7. ومنها, تلك الآية التى تعلمنا سنة الله في الاجتماع الإنساني.. سنة أن الاستغناء والاستفراد والأثرة والاستئثار لابد وأن تكون المقدمة المفضية إلى الطغيان!.. { كلا إن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى }العلق 7.6.
ومنها, الآيات التي تتحدث عن أن غيبة " تكافل التوازن الاجتماعي ", عندما تفضي إلى " خلل تركز الثروات في جانب, وتركز الفقر في جانب آخر", ستثمر ترف القلة, المفضي إلى البطر والضلال والكفر, { وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون. وقالوا نحن أكثر أموالا وأولاداً وما نحن بمعذبين}سبأ 34و35. { قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد}هود 87.
وهى ـ الترف ـ ذات السنة التي تؤدى إلى انهيار الحضارات وتراجع العمران { وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا} الإسراء 16 .. فالدمار هو اختلال التوازن, وتقطيع روابط التكافل, الذي يتأسس عليه العمران..