د. محمد عمارة .
بين التكافل والمساواة
وإذا كان هذا هو التكافل الاجتماعي, المعبر عن فلسفة الاستخلاف الإسلامية في الثروات والأموال.. فماذا عن موقف الإسلام من " المساواة "؟.. إن المساواة هي : تشابه المكانة الاجتماعية, والحقوقية, والمسئوليات, والفرص أمام الناس في المجتمع, على النحو الذي تقوم فيه الحالة المتماثلة بين هؤلاء الناس.
ولقد شاع الحديث عن المساواة في فكر الحضارة الغربية, منذ أن أعلنت مبادئ حقوق الإنسان, في الإعلان الذي أصدرته الثورة الفرنسية لذلك 1789م فدخلت المساواة منذ ذلك التاريخ في الكثير من الدساتير والمواثيق القومية والدولية.. وفى ميادين المساواة, تذكر ـ عادة ـ : المساواة السياسية .. والمساواة الاقتصادية.. والمساواة المدنية.. والمساواة الاجتماعية.. ويجرى الحديث عنها في علاقات المواطنين الداخلية.. وبين الأمم والدول.. وبين الأجناس والقوميات والشعوب.. وبعض المذاهب والفلسفات قد نحت منحا خياليا " طوباويا " في الحديث عن تصوراتها لتطبيقات مبدأ المساواة بين الناس, فتصورت إمكانية تحقيق التماثل الكامل والتسوية المادية الحسابية بين الناس في كل الميادين, وبالتحديد في الميادين الاقتصادية ـ شئون المال والثروة والمعاش ـ وفى الميادين الاجتماعية ـ التى تتأثر أوضاعها ومراتبها, عادة, بأوضاع الاقتصاد والمعاش والأموال والثروات.
لكن هذه التصورات " الطوباوية " قد استعصت على الممارسة الواقعية وعلى التطبيق في أي مجتمع من المجتمعات, حتى تلك التي حكم فيها أنصار هذه المذاهب والفلسفات.. ولعل أقرب التصورات إلى الدقة والواقعية, في مذهب المساواة, وإمكانية وضع مبدئها في الممارسة, هو التصور الذي يميز بين :
( أ ) المساواة بين الناس أمام القانون.. على النحو الذي ينفي امتيازات المولد, و الوراثة, واللون, والعرق, والجنس, والمعتقد.. فهذه المساواة ممكنة.. بل وضرورية, وواجبة التحقيق والتطبيق.. وهى قد تحققت بدرجات كبيرة في عديد من المجتمعات.
( ب ) والمساواة في تكافؤ الفرص أمام سائر المواطنين.. وسائر الأمم والقوميات.. وسائر الدول.. أي المساواة في تكافؤ الفرص المتاحة بمختلف الميادين.. وذلك حتى يكون التفاوت ثمرة للجهد الذاتي والطاقة المتاحة, وليس بسبب التمييز والقسر والحجب أو الامتياز.. وهذه المساواة ممكنة, وهى هدف يستحق الجهاد في سبيل تحقيقه, في الإطار الاجتماعي, والدولي على السواء.
( ج ) أما المساواة فيما بعد الفرص المتكافئة, فإنها هي التي تعد خيالا وحلما يستعصي على التحقيق, ويناقض السنن والقوانين الحاكمة لسير الاجتماع والعمران.. فبعد تكافؤ الفرص أمام الجميع, يكون التكافل, أي التوازن عند حدود العدل والوسطية, أي تحقيق الكفاية للجميع ـ وليس المساواة الحسابية ـ مع فتح الأبواب للتفاوت, المؤسس على الحلال في الحيازة والاستثمار والإنفاق, دونما إسراف أو اكتناز أو استئثار.
ففي المجتمع الذي تتكافأ فيه فرص تحصيل واكتساب وامتلاك العلم.. والمال..والاشتغال بالشئون العامة, سياسية واجتماعية, نجد الطاقات لدى الناس متفاوتة, ومن ثم تتفاوت أنصبتهم وحظوظهم في الملك والكسب والمحصول, بسبب تفاوت طاقاتهم المادية والذهنية والإدارية .. الخ.. فالمساواة في الفرص المتكافئة لا تثمر مساواة في مراكز الناس المالية والاجتماعية, لتفاوت القدرات ـ الموروثة, والذاتية, والمكتسبة ـ بين هؤلاء الناس.. إنها مساواة في تكافؤ الفرص, وليست مساواة في الأنصبة والحظوظ من هذه الفرص.
وإذا جاز لنا أن نجسد المساواة فيما بعد تكافؤ الفرص ـ وهى التي يعبر عنها التكافل الاجتماعي ـ فإن صورة " الجسد الواحد " هي المجسدة لهذا التكافل وهذه المساواة.. فأعضاء الجسد تتكافأ في الفرص المتاحة لها كي تستمد من القوى والطاقات, ومع ذلك فهى متفاوتة في الأحجام والطاقات والاحتياجات والمسئوليات .. ثم هي, مع ذلك وفوق ذلك, متكافلة في الأخذ وفى العطاء وفى الشعور.. فبينها جميعا التكافل الجامع, ثم إن لها بعد ذلك حظوظا من التفاوت والامتياز .. لذلك, كان حديث رسول الله, صلى الله عليه وسلم, الذي صور التكافل الاجتماعي الإسلامي ـ في الأمة ـ في صورة " الجسد الواحد ", هو التجسيد لفلسفة الإسلام المتميزة في هذا الميدان: " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم, مثل الجسد, إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" .
فإذا غاب هذا التكافل, انحلت روابط الاجتماع في المجتمع, وتحللت أعصاب جسد الأمة.. ولقد بلغ الإسلام في التحذير من ذلك إلى الحد الذي جعله سببا في براءة ذمة الله, سبحانه وتعالى, وذمة رسوله, صلى الله عليه وسلم, من الجماعة البشرية التى تسقط في مستنقع هذا الخلل الفاحش في علاقات الاجتماع.. وفى ذلك, وعنه يقول رسول الله, صلى الله عليه وسلم: " أيما أهل عَرُصَة أصبح فيهم امرؤ جائع قد برئت منهم ذمة الله تعالى .."
فمجتمع التكافل الاجتماعي, هو مجتمع الجسد الحي.. وإسهام كل عضو من الأعضاء في حياة الجسد وحيويته ليس متماثلا ولا متساويا.. وحظ كل عضو ونصيبه من رصيد حياة الجسد وحيويته ليس متماثلا .. فالتوازن والارتفاق, الذي يصبح فيه كل عضو فاعلا ومنفعلا ومتفاعلا مع الآخرين, وكأنه المرفق الذي يرتفق به وعليه الآخرون كما يرتفق هو بهم وعليهم, مع التفاوت في الحظوظ والمقادير والدرجات في عملية الارتفاق والتوازن هذه.. إن هذه الصورة هي الممكنة والحقيقية والعادلة في مبدأ المساواة بالميادين التي تتفاوت في تحصيلها طاقات الناس, وتتفاوت فيها أيضاً احتياجاتهم لما يحصلون من هذه الميادين.
إن الإسلام هو " دين الجماعة ", ولا وجود " للجماعة " بدون التكافل الاجتماعي, لأن هذا التكافل هو موجد النسيج الاجتماعي, المحقق لوجود هذه " الجماعة ".. وفى إطار هذه " الجماعة " تتمايز حظوظ الأفراد والطبقات فيما وراء حد الكفاية للجميع .. ومن هذه الصورة الجامعة " للوحدة .. والتمايز " جاءت كلمات الإمام على بن أبى طالب إلى واليه على مصر " الأشتر النخعي " ] 37هـ 657م [ ـ في عهد توليته ـ والتي قال فيها : " واعلم أن الرعية طبقات, لا يصلح بعضها إلا ببعض, ولا غنى ببعضها عن بعض, فمنها : جنود الله.. ومنها: كتاب العامة والخاصة.. ومنها : قضاة العدل .. ومنها : عمال الإنصاف والرفق ومنها : أهل الجزية والخراج, من أهل الذمة ومسلمة الناس.. ومنها : التجار وأهل الصناعات.. ومنها الطبقة السفلى, من ذوى الحاجة والمسكنة.. فالجنود حصون الرعية.. وسبل الأمن.. ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج لهم من الخراج.. ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب.. ولا قوام لهم جميعا إلا بالتجار وذوى الصناعات .."
فهي كلمات ترسم لوحة الحقيقة الاجتماعية لمذهب الإسلام الاجتماعي : التعددية القائمة علاقات أطرافها على " التوازن " أي التكافل الاجتماعي, فلا قيام لطرف منها إلا بالارتفاق مع الجميع..