د. محمد عمارة .
فرائض .. وليست مجرد حقوق .
وإذا كانت الفلسفات الاجتماعية غير الإسلامية قد وضعت العدل الاجتماعي في إطار " حقوق الإنسان " .. فإن الإسلام قد وضعه في مرتبة الفرائض والواجبات والتكاليف, التي يأثم الإنسان ـ فرداً أو جماعة ـ إذا هو تنازل عنه, حتى ولو كان هذا التنازل طواعية واختياراً .. كذلك, لم يقف الإسلام ـ في التكافل الاجتماعي ـ عند حدود " الفلسفة " التي تحدد " المقاصد .. والغايات ", وإنما وضع الفرائض التي تمثل " الآليات " التي تحقق هذه المقاصد والغايات..
وإذا كان استقصاء الحديث عن هذه " الفرائض ـ الآليات " فيما فرض الإسلام على المسلمين, هو مما يخرج هذه الصفحات عن الحيز المطلوب.. فإننا نكتفي ـ في هذا المقام ـ بالإشارة إلى بعض الفرائض الإسلامية التي يمكن لها ـ في الواقع الاقتصادي والاجتماعي " المأساوي ـ العبثي " الراهن ـ أن تخرج عالمنا من الظلمات إلى النور.. إن المجتمع المسلم, يجب أن يحقق " التنمية الاجتماعية " بالحلال الإسلامي .. وذلك بواسطة :
1 ـ صندوق التنمية بالركاز :
ذلك أن معظم ثروات الأمة الإسلامية مركوزة في باطن أرضها.. والإسلام يفرض فيما يستخرج من هذا " الركاز " زكاة مقدارها 20% .. وتستطيع الأمة أن ترصد زكاة الركاز ـ أي خُمس قيمة المستخرج من البترول والغاز والفوسفات والحديد والفحم والكروم والبوكسيت والمنجنيز والقصدير والنحاس والرصاص والذهب والفضة.. الخ ـ في صندوق للتنمية الاقتصادية الشاملة لأوطان الأمة.. على أن يراعى في أولويات التنمية, بمختلف الأقطار, البدء بتحقيق الكفاية في الضرورات, فالحاجيات, فالتحسينات والكماليات..
وبصندوق التنمية هذا, تتحقق العدالة الإسلامية بين كل أقطار الأمة, وفق ما هو مستخرج من أرضها.. والعدالة في التنمية والتكافل الاجتماعي, وفق سلم الضرورات, فالحاجيات, فالتحسينات.. وبه كذلك, تتحرر الأمة من أسر الديون الخارجية. وحرام الربا الفاحش, اللذين يرهنان موارد الأمة وحريتها وإرادتها لدى الدائنين!..
وبهذا المصدر للتنمية والتكافل يزدهر عمراننا الدنيوي, ونرجو ثواب الله ورضوانه يوم الدين..
2 ـ وصندوق الزكاة العامة :
ـ في غير الركاز ـ من الزروع, ورءوس الأموال, والتجارات, والعقارات, والحيوانات, والحلي المدخرة .. الخ .. الخ ومقادير هذه الزكوات تتفاوت بتنوع ماهى مفروضة فيه.. فمنها ما هو 2.5% وما هو 5% وما هو 10% .. الخ .. الخ...
وباستطاعة خطة التنمية الإسلامية أن تقيم لهذه الزكوات مؤسسة أو مؤسسات, توظف أموالها في التنمية الاجتماعية والاقتصادية الشاملة للفئات والمصارف التي حددها القرآن الكريم : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفى الرقاب والغارمين وفى سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم }.. التوبة 60.
ولخطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية حرية توجيه أموال هذه الزكوات للاستثمار في الميادين التي تحقق التكافل الاجتماعي, إما لأن ذلك هو ] في سبيل الله [, أو لأن وضع هذه الأموال في الإنتاج, المحقق لتكافل مصارف الزكاة, هو أفضل من إخراجها للاستهلاك..
3 ـ والوقف :
الذي نهضت مؤسساته ـ في تاريخنا الحضاري ـ بتمويل صناعة الحضارة الإسلامية, وتجديدها, وبإشاعة مستويات من التكافل الاجتماعي في عصور كان افتقارها إلى هذا التكافل شديداً..
إن الوقف على المنافع العامة ـ إنتاجاً واستهلاكاً ـ هو النموذج الصادق لملكية الجماعة والأمة, بعد أن تمخضت اشتراكيات العصر عن ملكية " للدولة " أو " البيرواقراطية " أو " الحزب ", لأن الوقف هو إخراج المال من حيازة الفرد ـ المستخلف فيه ـ إلى مالكه الحقيقي, الله, سبحانه وتعالى, أي إخراج المال ـ في الواقع ـ إلى الأمة والجماعة, التي هي المستخلف الأصلي في الثروات والأموال..
ومن الممكن إعطاء الوقف أبعادا حديثة, إن في المؤسسات والآليات أو في الآفاق التي تنهض بتنميتها والإنفاق عليها مؤسساته.. كما أن بالإمكان إدخال نظام " الأسهم " و " الحصص " في تكوين رءوس الأموال ومصادر الدخل الموقوفة على النفع العام..
إن أمة مولت صناعة حضارتها أهليا وطوعيا, بالأوقاف.. فكان عمرانها الدنيوي قربة إلى الله, سبحانه وتعالى, يحفزها إليها الاعتقاد الديني, لجديرة بإحياء هذا الشكل من أشكال التمويل لتحقيق التكافل الاجتماعي في عالم أصبح غابة توظف فيها 97% من رءوس الأموال في المقامرات والسمسرة.. و90% من عقول العلماء في خدمة صناعة السلاح والدمار.. و86% من ثمرات الإنتاج العالمي لرفاهية 20% من السكان!!..
وبإحياء الوقف ـ أيضاً ـ ترجح كفة " الأمة " على كفة " الدولة ", في عصر غدت فيه " الدولة " " ديناصورا ـ شمولياً " يغتال الحريات والخصوصيات, وخاصة عندما تسيطر على مصادر الأرزاق..
4 ـ وتحريم استثمار المال الإسلامي خارج ديار الإسلام:
فلا يحل ـ في واقع تستعبد فيه الديون أمة الإسلام, وتستنزف ثروات المسلمين, وتهدر إرادتهم ـ أن توظف ثروات المسلمين خارج ديار الإسلام.. ويعظم هذه الضرورة من ضرورات التكافل الاجتماعي حجم الاستثمار الإسلامي خارج بلاد المسلمين مقارنا بحجم هذا الاستثمار في البلاد الإسلامية.. ففي المدة من 1953م حتى نهاية 1993م, بلغت جملة المستثمر من المال العربي خارج ديار الإسلام 670 بليونا من الدولارات, بينما لم يتعد المستثمر من هذا المال في البلاد العربية 12 بليوناً من الدولارات.. أي أن مقابل كل دولار مستثمر في الداخل هناك 56 دولارا مستثمرة في دعم الاقتصاديات اللا إسلامية, بل والعادية, لنهضة المسلمين وعزة الإسلام!
بهذه المصادر والآليات والمؤسسات ـ وأمثالها ـ يحقق المجتمع الإسلامي التنمية الاجتماعية, بالحلال الإسلامي.. وبها نقيم التكافل الاجتماعي بين أبناء المجتمع المسلم.. فنقيم الإسلام في واقعنا.. ثم نقول للعالم هذا هو النموذج الإسلامي في التكافل العادل بين بني الإنسان..
وبذلك, أيضاً, نحول طاقات التدين ومخزون الاعتقاد الديني نحو إنجاز " المقاصد العامة " النافعة, بدلا من استهلاكها واستنزافها ـ ونحن معها ـ في " الأشكال " و " الجزئيات "!